بحـث
المواضيع الأخيرة
سحابة الكلمات الدلالية
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 36 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 36 زائر لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 171 بتاريخ الثلاثاء يونيو 12, 2018 11:35 am
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
خصائص المجاز الفنية
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
خصائص المجاز الفنية
ـ خصائص المجاز الفنية
لاشك أن اللغة العربية الفصحى تتمتع بخصائص ومزايا بلاغية متعددة ، تتمثل بالمعاني تارة ، وإن حملنا المعاين على معاني النحو بخاصة ، وبالبيان العربي تارة أخرى ، ونريد به أركانه الكبرى كما سيأتي ، وبجرس الألفاظ ومصطلحات البديع والمحسنات لفظية ومعنوية أحيانا إلا أن علم البيان بأركانه الأربعة : المجاز ، التشبيه ، الاستعارة ، الكناية هو ملتقى هذه الخصائص ، وعماد تلك المزايا.
فالمجاز بقسمة : العقلي واللغوي. والتشبيه بأسسه : المشبه ، المشبه به ، وجه الشبه ، أداة التشبيه. والاستعارة بأصول الشبه الاستعاري : الحسيين ، العقليين ، الحسي في المشبه والعقلي في المشبه به ، وبالعكس ، مضافا الى أقسام الاستعارة ، التمثلية ، والتصريحة ، والمكنية والأصلية ، والتبعية ، ... الخ.
والكناية بتعبيرها المهذب ، في أقسامها كافة ، كناية الصفة ، كناية الموصوف ، كناية النسبة ، وبأرتباطها الفني والبلاغي في كل من التعريض والرمز.
هذه المفردات والتوابع والفروع والأقسام والأصناف المتشبعة المتطاولة ، لو أردنا رطها واحد متميز ، ولو حاولنا حصرها بفن من الفنون لكان ذلك المجاز بل المجاز وحده ، إذ يصح إطلاقه ـ بإطاره العام ـ عليها ، كما هي الحال عند الرواد من الأعلام لذلك فالمجاز يحتل الصدارة في إطار هذه الفنون ، ويشكل الظل المكثف في أفياء هذه الخيمة البلاغية ، حتى ليصح لنا أن نسمي لغتنا العربية بلغة المجاز بالمعنى الذي أشار إليه المرحوم الأستاذ العقاد بقوله : « اللغة العربية لغة المجاز ،
٨٥
لا لأنها تستعمل المجاز ، فكثير من اللغات تستعمل المجاز كما تستعمله اللغة العربية ، ولكن اللغة العربية تسمى لغة المجاز لأنها تجاوزت بتعبيرات المجاز حدود الصور المحسوسة الى المعاني المجردة ، فيستمع العربي الى التشبيه فلا يشغل ذهنه بأشكاله المحسوسة إلا ريثما ينتقل منها الى المقصود من معناه »(١).
لذلك نميل الى أن اللغة العربية ـ دون سواها من لغات العالم ـ تتميز بخصائص بلاغية ، والبلاغة العربية ـ وهي الأصل في البلاغة العالمية دون تأثير إغريقي أو أجنبي ـ تتمتع بخصائص فنية ، والمجاز في صيغيته البيانية يحتضن كلا من الخصائص في اللغة والبلاغة معا ، لأن أصل البلاغة المجاز ، واللغة العربية لغة المجاز ، فصغروية المقارنة بكبرويتها أوصلت الى هذه النتيجة البديهية ضرورة كما هو تعبير المناطقة في استخلاص الحقائق وبرمجتها منطقيا في شؤون الاستدلال قياسيا أو بديهيا.
ولا غرابة في هذا الملحظ الاستقرائي لطبيعة الأشياء ، فالمجاز فن أصيل في لغة العرب ، له مقاييسه الفنية ، ومعاييره القولية عند العرب بخاصة ، لأنه يعنى بإرادة المعاني المختلفة ، وهم يميلون الى هذا الموروث الحضاري ، وهو يعنى أيضا بتقليب وجوه اللفظ الواحد لا في الأشياء والنظائر بل في المعاني الثانوية ، فينتقل باللفظ من وضعه الأصلي المحدد له مركزيا ، الى وضع جديد طارىء عليه تجدده العلاقات الفنية ، وهذا من أهم الخصائص التي يمتاز بها المجاز ويؤهله للتوسع في اللغة ، وذلك بإضافة المعاني الجديدة الى نفس اللغة بنفس الألفاظ مرتبطة بأصول بلاغية لا تخرجها عن دلالتها الأولى في جذورها اللغوية في أصل الوضع ، بل تضيفها اليها توسعا بإرادة المعاني الثانوية هذه ، ولا تكون هذه الإرادة إلا بمناسبة ، ولا المعاني المستحدثة إلا بقرينة ، وبذلك يتحدد الاستعمال المجازي وتحدد دلالته أيضا بضوابط أساسية تدفع عنه النبو والارتجال ، وتحفظه من الأغراب والابتعاد عن الذائقة الفطرية عند المتلقي ؛ فقد يكون القمر وجها ، والجبل وقارا ، والغصن اعتدالا ، والبان قواما ، ولكن لا
__________________
(١) عباس محمود العقاد ، اللغة الشاعرة : ٤٠.
٨٦
يكون القمر يدا ، ولا الجبل وجها ، ولا الغصن عينا ، ولا البان فما ، مراعاة المناسبة ـ إذن ـ ووضوح القرينة ، مانعان من الخلط المرتجل ، وضابطان من المجاز المشوه.
لهذا كثر استعمال المجاز في لغة العرب شعرا ونثرا وصناعة من أجل توظيفه في شؤون الحياة الاجتماعية من جهة ، ومن أجل إضافة مخزون تراثي متطور الى لغتهم المتطورة من جهة أخرى فعمدوا الى المعاني الرائعة فنظموها في معلقاتهم قبل الإسلام ، ووقفوا عند الأغراض القيمة فصبوها بخطابتهم في الأسواق الأدبية الشهيرة ، فكان للمجاز أثره في الإبداع ، وللانتقال به الى المعاني الجديدة بادرته في التجديد اللغوي والبلاغي في فن القول ـ حتى عاد المجاز بحق معلما بارزا في تراثهم ، بل ظلا شاخصا في حياتهم الأدبية ، فهو عندهم معني بالثروة الاحتياطية للمعاني ، والثورة الاحترازية للألفاظ. فالمجاز على هذا بخصائثه الفنية ثروة لغوية ، وثورة فنية ، هذه الثروة وتلك الثورة فيهما إشاعة روح اليسر والمرونة والسماح لتجاوز حدود الحقيقة اللغوية الى ما يجاورها ويقاربها ، أو ما يضاف اليها إمعانا في الابتكار ، وصيانة للتراث من التدهور والضياع. ولقد كانت النقلة في خصائص المجاز الفنية ، نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا ، وأبلغ تعبيرا ، وأوجز لفظا ، والألفاظ هي هي دلالتها الأولية.
هذه الحقائق متوافرة السمات في كلام العرب منذ عهد مبكر ، ومصنفات الأعلام في المعلقات والأمالي والمنتخبات والحماسة غنية بأصول هذا الفن وبشائره الأولى في عصر ما قبل الإسلام وصدر الإسلام والعصر الأموي في الصناعتين.
فإذا وقفنا عند هذا المعلم في القرآن العظيم وجدناه من خلاله : يشيع الحياة في الجماد ، والبهجة في الأحياء ، والحسن إلى الكائنات ، ويحدب أيضاً على سلامة الألفاظ في المؤدى ، وتهذيب العبارة في الخطاب ، وتنزيه الباري عن الأنداد ، وصيانة ذاته عن الجوارح ، وعلوه عن الحركة المجيء والانتقال والتشبيه.
وهنا يقترن الغرض الفني بالغرض الديني ، وذلك من خصائص التعبير المجازي في القرآن ، فغذا استدرجه تذوقاً نطقياً ، أو تجاوباً سمعياً ، علمت
٨٧
مدى تعلقه بتهذيب المنطق ، وإصلاح الأداء فلا زلل في اللسان ، ولا فهاهة في النطق ، ولا خشونة في الألفاظ.
خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم تنطلق من مهمته الإبداعية ، ومن مهمته الإضافية للتراث ، ومن مهمته التهذيبية للنفس ، ومن مهمته التنزيهية للباري .. هذه المهمات وظائف أساسية في منظور المجاز القرآني ، وهو مؤشرات صلبة تحدد لنا تحرير الألفاظ ، وتوجيه المعاني في خصائص المجاز القرآني التي لمسناها في الأسلوب والنفس ، ومظاهر الاستدلال العقلي ، وعلى هذا فسنقف عند الخصائص الأسلوبية ، والنفسية ، والعقلية للمجاز القرآني فحسب ، فهي بعمومها تشكل المناخ الفني لخصائص هذا المجاز ، ذلك من تتبع مجالات الاستعمال في الأعم الأغلب من مجاز القرآن.
٢ ـ الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن
خصائص المجاز اللغوية في القرآن الكريم ، فضلا عن كونها خصائص فنية من وجه ، ومؤشرات إعجازية من وجه آخر ، فهي بمفهوم غير اعتباطي خصائص أسلوبية متطورة للموروث اللغوي. في المجاز تدرك مركزيا أن اللفظ هو اللفظ ، لم يتغير ولم يتبدل حروفا وأصواتا وهيأة ، والمعنى لهذا اللفظ ذاته هو المعنى نفسه لم ينقص عنه شيئا ، إلا أنه قد ازداد معنى غير المعنى الاولي في دلالته الثانوية الجديدة حينما يراد به الاتساع الى الاستعمال المجازي ، وبتطور ذهني ، وتصور متبادر إليه ، من خلال السياق والإرادة والمغادرة المعنوية لأي لفظ من الألفاظ موقعة الى موقع أرق ، وحدث أكبر ، فهو في حالته المثبتة في معجمه الأجتماعي لم يتغير معناه الحقيقي في استعماله الحقيقي ، وإنما بقي على ماهو عليه ، وقد كانت القرينة الدالة على المعنى الإضافي هي الصارفة عن المعنى الأولي الى سواه في الاستعمال المجازي ، سواء أكانت القرينة حالية أم مقالية.
هذا التركيب الجديد في العبارة في الألفاظ المفردة في المجاز اللغوي وفي العلاقات بين الألفاظ في المجاز العقلي ، يستغين بها المتلقي
٨٨
عن كل التراكيب المماثلة أو المخالفة في المعاني المرادة في البنية اللغوية ، فالإيجاز خصيصة أسلوبية في هذا الملحظ ، والتطوير خصيصة ثانية في هذا الأسلوب ، فلا حاجة الى إسناد جملي جديد يسد مسد التركيب المجازي في اللفظ المفرد الموضوع لأصل ويقل عنه تفريغا وتنويعا الى معان مبتكرة ، يستغنى بذكرها مفردة مجازية منها عن إنشاء آخر للدلالة على تلك المعاني.
وقد يقال : وما هذا الالتواء في اصطياد المعاني المستحدثة من ذوات الكلم وأنفس الألفاظ ، ولماذا لا نغير العبارة ونأتي بها على صيغتها في الأصل للدلالة على المعنى الأصل دون تجوز ومغادرة للدلالة المركزية في هذا اللفظ أو ذاك. وللإجابة عن هذه المقولة لا بد من التنويه بالحقائق المنهجية لمسيرة لغة القرآن العظيم ، وهي لغة غير جامدة ، تستمد معينها الثر مواصفات أكثر عمقا من سطحية التقول والأفتراض الذي قد يجانب الواقع اللغوي لطبيعة هذه اللغة الكريمة.
كان العرب بفطرتهم النقية أئمة بيان لا شك في هذا ، والبيان العربي ذو جذور معرفة في القدم والأصالة يتكون مجموعه من عشرات الآلاف من الألفاظ ، ولو كررت الألفاظ نفسها لكان الكلام واحدا ، والتفاوت في الجودة والامتياز متلاشيا ، وإذا كان الكلام واحدا والتفاوت بين أبعاده مفقودا ، لذهبت خصائص البيان الأسلوبية ، ولأصبحت حالته متفردة ، غير قابلة للتفاضل ، واذا تحقق هذا ، فقد فقدت البلاغة العربية موقعها ، والبيان العربي مميزاته ، وحينما يكون المنظور الى الفن القولي متساويا ، فما معنى الإعجاز البياني واللغوي والبلاغي في القرآن الكريم ، وما هي عائدية قوله تعالى في التحدي للبشرية جمعاء حينما يصرخ :
( وإن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين (٢٣) )(١).
هذا التحدي قائم منصلتا على الإعجاز في القرآن ويعني هذا عجز الكائنات البليغة عن الإتيان ولو بسورة واحدة من جنس هذا البيان ، وعدم
__________________
(١) البقرة : ٢٣.
٨٩
الاتيان من مثله دليل أصالة القانون البديهي بتفاوت درجات الكلام ومنازله ، فكان القرآن أعلاها دون ريب ، وكان معجزا بحق. ولو تساوى الكلام لانتهى الإعجاز ، ولما كان الإعجاز باقيا كان بالضرورة تفاوت الكلام ، وتفاوت الكلام إنما يتحقق بإيراد المعنى في طرق بيانية مختلفة وسبل هذه الطرق واضحة ، وركيزتها الأركان الأربعة : المجاز ، التشبيه ، الاستعارة ، الكناية ، والتشبيه والاستعارة جزءان من المجاز ، والكناية تعني المعاني الثانوية بل معنى المعنى بالضبط ، فأركان البلاغة الأربعة جميعا قائمة على المجاز بمعناه العام ، وهو المراد. إذن الدلالة المجازية في الألفاظ ، منحة إضافية تمثل مرونة اللغة في الانتقال ، وتطورها عند الاستعمال. وهذه الدلالة تقوم بعملية تصوير فني موحية ، بإضافة جملة من المعاني الجديدة التي تدعم الزخم اللغوي ، وتؤنق في عباراته دون تكلف أو تعسف ، أو اقتراض للمفردات من اللغات الأجنبية أو المجاورة ، لأنها تعود بذلك غنية عن أية استدانة معجمية من أية لغة عالمية أو إقليمية ، هذا التأنق في اختيار المعاني ، وهذا الأكتفاء في مفردات الألفاظ ، مما يتماشى مع مهمة البلاغة العربية في مطابقة الكلام لمقتضى الحال ، ومما يتلاءم مع الخصائص الأسلوبية للمجاز في رفد المخزون الدلالي للألفاظ. لهذا فقد كان سليما ما قرره في هذا المجال في صديقنا المفضال الدكتور عبد الله الصائغ من اعتباره المجاز « عبارة عن مغادرة المفردة لدلالتها المعجمية لتموين دلالة جديدة تسهم في الاتساع والتوكيد والادهاش »(١).
* * *
والمجاز بعد هذا : هو حلقة الوصل بين الذات المعبرة وإراداتها المتجددة في المعاني المستحدثة ، وهذا بعينه هو التطور اللغوي في اللغة الواحدة ذات المناخ العالمي في السيرورة والانتشار. وهما سمة لغة القرآن.
وهنا يجب أن لا يتطرق في انطباق مفهوم المجاز وحقيقته
__________________
(١) عبد الإله الصائغ ، الصورة الفنية معيارا نقديا : ٣٧٠.
٩٠
الاصطلاحية على صنوف التعبيرات اللغوية ، حتى وإن أريد بها معناها الأصل ، لأن ذلك مما يشوه حقيقة البيان ، ودلالته البلاغية ، ومما يحمّل الكلام كثيرا مما لا تحتمل طاقته التي تنهض به الى مستوى التعبير الأدبي ، فيعود ذلك تكلفا دون ضرورة اليه ، وتمحلا ، دون اتكاء البيان عليه ، والتمحل والتكلف وسواهما من التعسف أحيانا مما ترفضه سجية النصوص الأدبية الراقية لا سيما في القرآن العظيم.
إلا أن ظاهرة هذا التكلف شائعة بين النحاة من جهة ، وبين جملة من المفسرين من جهة أخرى ، وقد تكون بينهما معا إذا كان المفسر نحويا أو النحوي مفسرا ، وهذا مما يؤسف الوقوع فيه ، والتمسك به ، لأنه قد يتعارض بشكل وآخر مع الخصائص الأسلوبية لمجاز القرآن.
خذ مثلا قوله تعالى : ( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم ... ) (١) فقد ذهب بعض الأستاذة المعاصرين : أنهم قالوا أن فيه إطلاق الكل على البعض ، والمراد تعجبك وجوههم ، لأن الأجسام لا ترى كلها ، وإنما يرى الوجه فحسب ، ولا أرى تأويلا أبعد من هذا التأويل عن روح الآية ، فالجسم وإن كان لا يرى كله ، فمن المستطاع أن يدرك الإنسان بنظرة ما عليه الجسم من جمال يبعث على الإعجاب ، وقد لا تريد الآية : تعجبك وجوههم ، ولكنها تريد يعجبك ما عليه أجسامهم من ضخامة ، وما يبدو فيها من مظاهر النماء والقوة ، وما عليه وجوههم من جمال ونضرة (٢).
هذه الملحوظة وما قاربها ، لا تخلو من وجه سديد فيما يبدو ، إذ لا معنى للتكلف المفرط الذي يخرج النص عن ذائقته الفطرية ، تصيدا لمعان قد لا تراد ، ووجوه لا تستحسن ، وعلاقات قد لا تستصوب.
وقد تنبه أستاذنا المرحوم الدكتور أحمد عبد الستار الجواري الى هذا المأخذ فعالجه وأشباهه معالجة فاحصة ، ونقده بأدب واتزان تامين ، فمس النحاة والمفسرين مسا رقيقا ، وعاتبهم عتابا جميلا ، وهو في معرض الحديث عن هذه البادرة مضافا الى الاستعمال القرآني الدقيق فقال : « ومن
__________________
(١) المنافقون : ٤.
(٢) أحمد أحمد بدوي : من بلاغة القرآن : ٢٢٤.
٩١
لطائف الاستعمال القرآني كثرة ورود المصدر وصفا إما على سبيل الإسناد خبرا ، أو على سبيل النعت أو الحال. قال تعالى في سورة الإسراء :
( نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى ) (١).
وقال تعالى في سورة الكهف :
( فعسى ربّي أن يؤتين خيرا من جنّتك ويرسل عليها حسبانا من السّماء فبصبح صعيدا زلقا (٤٠) أو يصبح ماؤُها غورا فلن تستطيع له طلبا (٤١) ) (٢).
والمصدر في الآية الأولى خبر المبتدأ ، وهم يزعمون أن اسم المعنى لا يخبر به عن اسم الذات فتأمل. وفي الآية الثانية خبر الفعل الناسخ.
وقال تعالى في مورة الفرقان :
( وعباد الرّحمن الّذين يمشون على الأرض هونا ) (٣) يقول الزمخشري : « هونا حال أو صفة للمشي ، ... إلا ان وضع المصدر موضع الصفة مبالغة » (٤).
ويعقب المرحوم الدكتور الجواري على هذه الظاهرة بقوله : « وهذا ديدن النحاة إذ أنهم يجنحون إما الى التأويل بتقدير مضاف حتى يكون هو المصدر صالحا لوصف اسم الذات أو الإخبار عنه ، وإما الى تفسيره على صورة المبالغة والمجاز. على أن شيوع هذا الاستعمال ووفرته يشعران بأن التأويل والتقدير وصرف المعنى الى المجاز والمبالغة أمور لا ضرورة لها ولا سبب ، بل أنها قد تخرج العبارة عن المعنى الذي قصدت إليه » (٥).
وقد يقترن الاستعمال الحقيقي بالتعبير المجازي في القرآن ، لتأكيد حقيقة كبرى ، وتصوير معلم بارز من معالم الأحداث المهمة ، يشكل من خلالهما القرآن خصائص أسلوبية مميزة في العرض والأداء والتعبير ، حتى
__________________
(١) الإسراء : ٤٧.
(٢) الكهف : ٤٠ ـ ٤١.
(٣) الفرقان : ٦٣.
(٤) الزمخشري ، الكشاف ٣ : ١٠٣.
(٥) أحمد عبد الستار الجواري ، نحو القرآن : ٦٩ ـ ٧٠.
٩٢
تعود تلك الخصائص ظاهرة لغوية معينة يؤكدها أسلوب القرآن المرة بعد الأخرى ، وتمثلها في كتاب الله تعالى عند الآية ، هذه الخصائص تتجسد بأبرز مظاهرها الفنية في إسناد الحدث الى غير فاعله ، وتحاشي ذكر المسبب في إيجاده ، وكان القرآن في هذا وذاك يريد التوجه الجدي الحثيث منصبا الى الحدث ذاته ، والتفكير منحصرا في أبعاده دون النظر في الفاعل والمبدع له ، أنى كانت نوعيته وكيفيته ، وهذا ما حدب على تصويره القرآن في مظهرين عظيمين حينما يتحدث عن يوم القيامة مثلا. المظهر الأدل في مجاله ، الحقيقي وتعبيره الأستعمالي الأصل :
١ ـ يتحدث النص القرآني عن أحداث الساعة ، والتزلزل الكوني في العالم عندها ، والتغيير المفاجىء لمعالم الدنيا البصرية والحسية ، فتجيء صفة الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول في عشرات الأيات بل مئاتها من القرآن ، ولنقف عند سورة التكوير :
( إذا الشّمسُ كوّرتْ (١) وإذا النُّجوم انكدرتْ (٢) وإذا الجبال سيّرت (٣) وأذا العشار عطلّت (٤) وإذا الوحوش حشرت (٥) وإذا البحار سجّرت (٦) وإذا النّفوس زوّجت(٧) وإذا الموءودة سئِلت (٨) بأيّ ذنب قتلت (٩) وإذا الصّحف نشرت (١٠) وإذا السّماء كشطت (١١) وإذا الجحيم سعّرت (١٢) وإذا الجنّة أُزلفت (١٣) علمت نفس مّا أحضرت(١٤) )(١).
وباستقراء هذه الآيات الاربع عشرة ، نجد منها اثنتي عشرة أية قد بنيت أفعالها للمجهول ، وطوي ذكر الفاعلى فيها وهي :
كورت ، سيرت ، عطلت ، حشرت ، سجرت ، زوجت ، سئلت ، قتلت ، نشرت ، كشطت ، سعرت ، أزلفت.
والقارىء للقرآن يدرك بالفطرة المودعة لديه ، أن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى بقدرته ، أو بأمره ، أو بإرادته ، أو بتوجيهه لملائكته في تنفيذ ذلك ، فصدوره عنه لا شك في ذلك لأنه الجامع بين هذه الأشتات ، والمنظم لهذه المتفرقات ، أوجدها وسخرها وأنطقها ورتبها ، ولكن
__________________
التكوير : ا ـ ١٤.
٩٣
الخصائص الأسلوبية لهذا النص لا تتعلق بمحدث هذه الأفعال وموجدها ، وإنما العناية متجهة نحو الحدث ، ولفت الأنظار حوله ، والعناية به. لتكون العبرة أشد ، واليقظة أعظم.
٢ ـ وفي التعبير المجازي قد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي ، تأكيدا على هذه الظاهر ، وكأن الفعل متلبس بالفاعل ، وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل إليه ففعله ، وإن يكن لهذا الفاعل حول أو طول ، أو ليس من شأنه ذلك بل المحدث غيره في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( أقتربت السّاعة وأنشق القمر (١) )(١).
ب ـ ( يوم تمور السّماء مورا (٩) وتسير الجبال سيّرا (١٠) )(٢).
ج ـ ( اذا السّماء انفطرت (١) وإذا الكواكب انتثرت (٢) )(٣).
د ـ ( فارتقب يوم تأتي السّماء بدخان مّبين (١٠) )(٤).
وواضح أن الساعة لا تقترب تلقائيا ، وأن القمر لا ينشق ذاتيا ، وأن الساء لا تمور إراديا ، وأن الجبال لا تسير اختياريا ، وأن السماء أيضا لا تنفطر من نفسها ، وأن الكواكب لا تنتثر بحالها ، وأن السماء لا تأتي بدخان مبين بإرادتها. وأنما أضيف لها الفعل لتضخيم الحدث ، وليتجه التفكير نحوه ، فالفاعل الحقيقي هو غير ما أسند إليه الفعل وتأتي ، فالساعة تقترب حتما ، والقمر ينشق قطعا ، والسماء تمور وتنفطر وتأتي بالدخان مسخرة ، والجبال تسير لا شك في هذا ، والكواكب تنتثر من تلقاء نفسها ، ولا يحتاج كل هذا الى كبير أمر ، فقد سخرها ربها لتلقي الحدث فهي صاحبته في مناخ قاهر لا عهد لها به ، فتتطوع بهذه الأفعال بذاتيتها دون التلويح الى الفاعل الحقيقي.
ومما يؤسف له حقا أن ينشغل أكثر المفسرين عن هذا الملحظ
__________________
(١) القمر : ١.
(٢) الطور : ٩ ـ ١٠.
(٣) الانفطار : ١ ـ ٢.
(٤) الدخان : ١٠.
٩٤
الدقيق ، وهذه الظاهرة الأسلوبية النموذجية الى الخوض في تفصيلات الفاعل ، وتأويل صدور الفعل عنه.
تقول الدكتورة عائشة عبدالرحمن ، ونحن نوافقها في هذا العرض ، لأنه من صميم منهجنا البياني :
« وقد شغل أكثر المفسرين والبلاغيين بتأويل الفاعر ، عن الالتفات الى اضطراد هذه الظاهرة الأسلوبية في هذا الموقف ، مع وضوحها الى درجة العمد والإصرار : وسرّها البياني دقيق جليل : فاطراد إسناد الحدث الى غير محدثة ، بالبناء للمجهول ، أو الإسناد المجازي ، أو المطاوعة ، يدل على التلقائية التي يكون بها الكون كله مهيئا للحدث الخطير ، وأن الكائنات مسخرة بقوة لدلك الحدث ، فما تحتاج فيها الى امر ، ولا الى فاعل ... وفيه كذلك ، تركيز الانتباه في الحدث ذاته ، وحصر الوعي فيه ، فلا يتوزع في غيره »(١).
٣ ـ وإذا جئنا الى الاتساع اللغوي في مجاز القرآن وجدنا ظاهرة أسلوبية شامخة ، وفصل المجاز اللغوي في القرآن يؤكد هذه الظاهرة بجميع أبعادها في التجوز والاتساع والمرونة ، وفيه غنية عن الإفاضة في هذا المدرك لأنه حافل بدلائل سلامة اللفظ اللغوي ، وسيرورته في المعاني الجديدة التي لا تعامل الأصل باعتباره منسوخا أو مستغنيا عنه ، بل هو هو وهو مضاف إليه هذا الاتساع.
تأمل في هوله تعالى : ( والله محيط بالكافرين ) (٢) فإنك ستجد بيسر وسهولة كلمة « محيط » غير متخلية عن المعنى الأصل ، ولكنها على الصعيد المجازي ، تحمل دلالة بارزة جديدة ، تتعدى معنى الإحاطة التقليدية ، التي اعتاد السامع إدراكها مركزيا من اللفظ ، فليست إحاطته تعالى ههنا إحاطة مكانية ، أو طلية ، أو جسمية ، كإحاطة القلادة بالجيد ، أو السوار بالمعصم ، أو الخاتم بالبنان ، وإنما هي إحاطة مجازية مطلقة عن حدود الإحاطات المتعارفة ، وبديهي أن يراد بها إحاطة ذي القوة بمن ليس له
__________________
(١) بنت الشاطىء ، التفسير البياني : ١/٨٥.
(٢) البقرة : ١٩.
٩٥
قوة ، وذي الحول بمن لا حول له ، وكإحاطة ذي الشأن بمن لا يدانيه سيطرة وإعدادا ، إذ لا يمكن أن تفسر هذه الإحاطة بالمكان ، وإن استوعبت حدود كل مكان ، لأن الله تعالى فوق حدود المكان ، وإذا كان الأمر كذلك ، ويبدوا أنه كذلك ، فلا بد من رصد هذه الظاهرة بهذا المدرك الاتساعي في التجوز باللفظ ذاته ، وحمله على المعنى الذي أشار اليه الزمخشري ( ت : ٥٣٨ هـ ) في قوله : « والمعنى أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به حقيقة »(١).
إن الذائقة الفنية في مثل هذه الظواهر تمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن ، إذ تجدد القدرة الخارقة في كل نموذج آنف على استيحاء التلازم الذهني بين الأصل الحقيقي والفرع الاستعمالي لمناسبة ما في تنقله من معنى أولي الى معنى ثانوي ، وهو يهز المشاعر حينا ، ويصون التراث حينا آخر ، ويحدث ذلك عادة في وقت واحد وبتفكير جملي متحد. وهذا من خصائص الأسلوب المجازي في القرآن.
٣ ـ الخصائص النفسية في مجاز القرآن
ليس أمرا سهلا ، أن يساير النص الأدبي النفس الإنسانية ، وليس هينا أن تتطلب النفس أيضا نصا أدبيا ، فالنفس جموح لا تهدأ ، وغروف لا تكبح ، وشرود لا يسيطر عليها نص اعتيادي ، أو فن قولي ، دون أن تتمثل به أرقى مميزات الانجذاب التلقائي ، والبعد النفساني المتوازن ، فتقبل عليه النفس اشتياقا أو إيناسا ، وتعزب عن سواه نفورا أو إيحاشا.
النص وجودته وحدهما يهيئان المناخ المناسب في النفس الإنسانية إقبالا على النص أو عزوفا عنه. ومن ثم فالمجاز القرآني وهو ينقل اللفظ من صورة الى صورة أخرى على النحو الذي يريده المصور ، فإن أراد منهها في صيغتها الحقيقية. فأنت تستطيع في المجاز تكييف النص الأدبي نحو المعنى المراد ، دون توقف لغوي أو معارضة من دلالة اللفظ
__________________
(١) الزمخشري ، الكشاف ١ : ٨٥.
٩٦
المركزي ، وذلك بحسب ما تريده من إثارة النفس ، أو إلهاب العاطفة ، أو إذكاء الشعور في حالتي الترغيب والتنفير ، وهما حالتان متعلقتان بالحس العاطفي لدى الإنسان ، وناظرتان الى الانفعالات الوجدانية في النفس الإنسانية.
أ ـ في توجيه النفس نحو الترغيب تقف على « قاصرات الطرف » في حكايتها المجازية من قوله تعالى :
( وعندهم قاصرات الطرف عين (٤٨) كأنّهن بيض مكنون (٤٩) )(١). والحدث حقيقي الوقوع بأبعاده التصويرية المتأنقة ، ولكنك ترى ما في الوصف ، والتعبير عن النساء بقاصرات الطرف وليس في طرفهن قصور ، من التراصف البياني المرتبط بإثارة النفس للتعلق بمن تنطبق عليه هذه العبارة ، أو تتحقق فيه هذه الأوصاف التي تطمئن اليها الروح الإنسانية وتهش لها الذات البشرية ، ويتطلع اليها الخيال متشوقا مع نقاء الصورة ، ولطف الاستدراج ورقة الترغيب المتناهي ، فقد وصف نساء أهل الجنة بحسن العيون الناظرة الى أزواجها فحسب عفة وخفرا وطهارة ، دون التردد في النظر الى هذا وذاك ، وأضاف الى هذا الملحظ التشبيه الحسي بالبيض المكنون على عادة العرب في وصف من اشتد حجابه ، وتزايد ستره ، بأنه في كن عن التبرج ومنعة من الاستهتار.
ب ـ وأما في التنفير ، فتزداد النفس عزوفا ، وتتوارى عن الصورة المتخيلة أو المتجسدة نفورا ، حتى يبدوا الإشمئزاز منها واضحا ، والاستهانة يوخامتها متوقعا فضلا عن الهلع والرعب في صورة الهلع والرعب ، والخوف والتطير في نموذج الخوف والتطير إذا حققت هذا أو ذاك الصورة الشديدة في التنظير المجازي ، وإن شئت فضع يدك على الدلالة المجازية في إرسال الريح العقيم على عاد وهي ( ما تذر من شيء أتت عليه ) من قوله تعالى : (وفي عاد إذ ارسلنا عليهم الريح العقيم (٤١) ما تذر من شيء أتت عليه إلاّ جعلته كالرميم (٤٢) )(٢).
سترى كيف ازدادت عندك الحالة المتصورة سوءا ، وكيف نفر منها
__________________
(١) الصافات : ٤٨ ـ ٤٩.
(٢) الذاريات : ٤١ ـ ٤٢.
٩٧
طبعك فرارا ، فما هو شأن هذه الريح المشومة التي أسند إليها التدمير التام ( ما تذر ) وأسندت إليها الفاعلية في يسر ومطاوعة ( أتت ) حتى جاءت بعذاب الاستئصال. فما هي خصائص هذه الريح بهذه المطاوعة في التسخير للهلاك العام حتى عاد كل شيء ( أتت عليه ) كالورق الجاف المتحطم ، نظرا لشدة عصفها ، وسرعة تطايرها ، وخفة مرورها.
وحديث النفس في مجاز القرآن ذو سيرورة وانتشار حتى عاد جزءا قويما من خصائصه الفنية دون ريب ، وهو يتجلى في عدة مظاهر تقويمية يمكن الإشارة إليها بما يلي :
١ ـ في نماذج المجاز القرآني نجد دلالة ذات أهمية مشتركة بيانية ونفسية في آن واحد ، يعبر في هذه الدلالة عن علاقة اللغة بالفكر ، والفكر بالعاطفة ، والعاطفة بالنفس.
وفي هذا الخصوص كثيرا ما يفجؤك المجاز القرآني وقد تعدى حدود اللغة الى النفس ، ومناخ الاتساع الى الخيال ، فهو طالما تجده يسند الاحساس الى الجماد ، فيصفه بالفاعلية ، لتتوجه النفس اليه وينحصر الحدث به وكأنه فاعله ، ويريك الحركة وهي دائبة في العوالم الصماء ، فكأنها ناطقة تتكلم ، فيصك بذلك أسماعا غير واعية ، وآذانا غير صاغية ويضفي ملامح القوة على ما لا قوة فيه ، وكأنه رائد متمكن. وليس هذا وذاك إلا من مظاهر الخصائص النفسية في الاسلوب الذي يحرك الضمائر حينا ويهز المشاعر حينا آخر ، ويبعث الخواطر سواهما ، ولعله يريد بذلك أن يفجر روافد جديدة ذات إطار تجريبي في محاكاة غير المحسوس للمحسوس ، ومماثلة الإدراك في غير المدرك كما هو في المدركات ، لأن في ذلك انتقالا في الصورة الى داخل النفوس وواقع الخبايا في النفس المعتبرة بما تضفيه المجازات القرآنية من أبعاد جديدة ، ولعل خير مايمثل هذا الاتجاه الحيوي التأمل في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وضرب الله مثلا قرية كانت ءامنة مّطمئنّة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ... )(١).
__________________
(١) النحل : ١١٢.
٩٨
ففي هذا الأنموذج الأعلى عدة استعمالات مجازية تدور حول هذا الفلك من البيان العربي الصميم ، ومهمته إذكاء الحفيظة في النفس لتلافي التقصير المتعمد في ذات الله ، فقد وصف القرية بكونها آمنة مطمئنة ، وقد علم بالضرورة أن الأمن والاطمئنان لا تتصف بهما مرافق القرية وجدرانها ، وإنما يتنعم بهما أهلها وسكانها ، فعبر مجازا عن طريق إطلاق أسم المحل وهو القرية على الحال فيها وهم الأهل والسكان.
وعبر عن الرزق بأنه يأتي والرزق ليست له حركة ولا إرادة في التنقل والقصد ، وإنما الله تعالى هو الذي يسخر من يجلب الأرزاق ، ويأتي بها ـ وهو الرزاق ذو القوة المتين ـ من كل مكان الى هذه القرية ، تعبيرا عن تنعمها وعيشها الرغيد ، وذلك ما تهش إليه النفس ، فكان الرزق دون عناء يقصدها سائرا عامدا متوافرا.
وهذا الوصف لهذا الهناء لا يمانع من الوعيد في إفنائه واستبداله بالعناء ، فكلاهما من الصور النفسية :
ب ـ ( مثل الّذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدّت به الرّيح في يوم عاصف ... )(١).
فستقف عند حقيقتين مجازيتين يرتبطان بشد النفس إليهما والوقوف بتأمل ويقظة وحذر عندهما :
الأولى : إسناد الاشتداد الى الريح ، لتهيئة المناخ النفسي لتلقي هذه الصورة ، وحصر التفكير في كيفية هذه الريح ونوعيتها ، فهي فاعلة متحركة ، دائبة ، متموجة ، طاغية ، مطاوعة ، وليس للريح حول ولا طول في الملحظ التكويني ، فلا هي مشتدة حقيقة ولا هي جارية واقعا ، وإسناد هذا وذاك إليها كان بسبيل من المجاز ، لأن تسخيرها بالله وحده ، فلا إرادة للريح ولا طواعية ، والمجاز هو الذي طوع هذه الحقيقة اللغوية ، فأعارها مناخا جديدا ، وكأن الريح قائمة ، والجري على أشده ، والحركة ذاتية.
الثانية : إسناد الفاعلية والصفة الثبوتية للزمان لمشابهته الفاعل
__________________
(١) إبراهيم : ١٨.
٩٩
الحقيقي ، فقد أسند عصف الريح الى اليوم ، وهو دال على زمان من الأزمان ، ولا تستند إليه الفاعلية حقيقة إلا على نحو المجاز ، وهو كذلك ، وهذا أيضا مما نظر فيه الى النفس ليخلص اتجاهها في تصور شدة ذلك اليوم ، وعصف ذلك اليوم ، وحديث ذلك اليوم ، دون التفكير في الهوامش والجوانب الفائضة ، فكأن المراد هو اليوم فنسب إليه العصف ، فأقام اليوم مقام المضاف المذوف في التقدير اللغوي الأصل ، فهو يوم ذو عصف إن صح ما تأولوه.
وقد يكون هذا الإدارك على سبيل التعبير عن شدة الأمر ، وقيام العصف على أشده في ذلك اليوم ، مما يهم الإنسان ، فارتبط الحدث به نفسيا ، فأسند إليه الفعل كما هي الحال في هوله تعالى :
( فكيف تتّقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا (١٧) ) (١).
يقول الدكتور أحمد بدوي معلّلا هذه النسبة نفسيا :
« ولما كان يوم القيامة تملؤه أحداث مرعبة ، تملأ النفوس هولا يتسبب عنها لشدتها الشيب ، وكان هذا اليوم ظرفا لتلك الأحداث ، صح أن يسند الشيب إليه »(٢).
٢ ـ وإذ يوصلنا الى يوم القيامة ، فإن التعبير المجازي عن هذا اليوم يزداد جلاء ، فيعكس الحدث مقترنا بذلك اليوم ، ومنسوبا الى عوالمه الصامتة ، وإذا بها ناطقة تتكلم ، ومفصحة تعرب عما في الدخائل ، ويتجلى هذا في كل من قوله تعالى :
( يومئذ تحدّث أخبارها (٤) ) (٣).
والضمير عائد الى متقدم لفظا ورتبة كما يقول النحاة ، وتقدير الكلام عندهم : تحدث الأرض أخبارها ، والحقيقة اللغوية أن يتحدث ذو النطق بألته ، وذو اللسان بأداته ، لا الجماد بعجمته ، فهل هو تمثيل يعني : أن ما
__________________
(١) المزمل : ١٧.
(٢) أحمد أحمد بدوي ، من بلاغة القرآن : ٢٢٣.
(٣) الزلزلة : ٤.
١٠٠
يحدث في ذلك اليوم ، وما يجري فيه من الشدائد الهائلة ، والشدائد تثير الهلع في النفس ، والمنظور هنا نفساني لا شك ، والتغيير الكوني يؤكد الاهتمام المتزايد لدى الإنسان ، بعد زلزلة الأرض ، وإخراج الأثقال ، وذهول الإنسان لتلك الأحداث الجديدة ، فهو يتسائل في حيرة وعجب واستغراب : ( وقال الأنسان ما لها (٣) ) (١) فإذا أضفنا إليها السماوات بعوالمها ، والأرض بكل مواقعها :
( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار ) هذه الكائنات كلها ناطقة بجمهرة من الأحداث ، فهي تتحدث عنها ، وتفصح عن أهوالها ، كما يقال : رزء يعبّر عن كارثة ، وخطب ينبي عن شدة ، وليس الرزء معبرا حقيقة ، ولا الخطب بمنبىء.
هذا المدرك المجازي يميل إليه الزمخشري بقوله : « والتحديث مجاز عن أحداث الله تعالى فيها من الأحوال ما يقوم مقام التحديث باللسان » (٢). وهو الذي تميل إليه الدكتورة بنت الشاطىء :
« والذي نكمئن إليه ، هو أن تحدث الأرض على الإسناد المجازي ، فيه تقرير لفاعلية تستغني بها عن فاعل ، وتأكيد للظاهرة الأسلوبية المضطردة في حرف النظر عمدا عن الفاعل الأصلي لأحداث البعث والقيامة. ثم لا يغيب عنا ما لهذا الصنيع البياني من قوة إثارة وإيحاء ، فنحن نشهد صورة فنية معبرة ، فنقول في إعجاب : إنها تكاد نتطق ، والبيان القرآني المعجز لا ينطق الجماد فحسب ، بل يجرد منه كذلك شخصية حية ، فاعلة ناطقة مريدة مدركة » (٣).
ب ـ إن ما سبق لنا القول فيه تؤكده أحداث القيامة ، من قول كما في قوله تعالى : (يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مّزيد (٣٠) ) (٤).
أو فعل وقوة كقوله تعالى : ( إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور (٧)
__________________
(١) الزلزلة : ٣.
(٢) الزمخشري : الكشاف : ٤ / ٢٧٦.
(٣) بنت الشاطىء ، التفسير البياني : ١/ ٩٢ وما بعدها.
(٤) ق : ٣٠.
١٠١
تكاد تميّز من الغيظ (٨) ... ) (١) ، أو شدة ناطقة فاعلة كقوله تعالى :
( يا أيها الناس أتّقوا ربّكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم (١) يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمّا أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد (٢) ... ) (٢) وليست جهنم كائنا متكلما فتقول ، وتستمع وتجيب ، وإن كان ذلك غير بعيد إعجازا.
وليست النار جسما مريدا وفاعلا فنستمع لشهيقها أو هي تفور ، أو تتميز من الغيظ.
وليس في القيامة إرضاع حتى تذهل المرضعة عن رضيعها ، وليس هنالك وضع وولادة وإنجاب ، حتى تضع كل ذلت حمل حملها.
إن التعبير بالمجاز بمعناه العام هو الذي صور هذه الأحداث بهذه الصور المثيرة ، وأبانها بهذه الهيأة الناطقة ، وسيّرها بهذه الإرادة التامة تنبيها للضمائر ، وتوجيها للعقول ، وتأثيرا على النفوس حتى تستعد لذلك اليوم الذي تنطق فيه جهنم ، وتفور فيه النار حتى يسمع شهيقها ، وحتى لتكاد تتقد من الغيظ وتنشق ، ذلك اليوم الذي لو أرضعت فيه المرضعة لذهلب عن رضيعها ، ولو توافرت فيه ذوات الأحمال لوضع أحمالها.
إذن هذه خصائص نفسية يحملها المجاز القرآني ونحتضنها تعبيره الفريد من أجل الإنسان. دربة منه على الحذر والاستعداد والتهيؤ التام.
جـ ـ وما يقال في ملحظ النطق والقول والقوة بالنسبة للنار يقال عينه بالنسبة للإيحاء الى الأرض في قوله تعالى : ( بأنّ ربّك أوحى لها (٥) ) (٣).
والقضية تصور في مدرك عقلي محض ، فالوحي الإلهي هو الفعل الذي يكشف به الله للإنسان عن الحقائق التي تجاوز نطاق عقله (٤).
__________________
(١) الملك : ٧ ـ ٨.
(٢) الحج : ١ ـ ٢.
(٣) الزلزلة : ٥.
(٤) ظ : د. جميل صليبا ، المعجم الفلسفي : ٢/٥٧٠.
١٠٢
وإذا كان الوحي فعلا متميزا ، فهو صادر عن فاعل مريد ، وهذا الفاعل المريد هو الله تعالى ، الى متلق ممتثل ، فتعلقه في الأرض إذن تعلّق مجازي ، إذ طريق الوحي هو التلقي ، والأرض غير قابلة للتلقي. لهذا فالإيحاء في الآية عند الزمخشري مجاز لا يستثني بهذا شيئا قال :
« أوحى لها بمعنى أوحى إليها ، وهو مجاز كقوله تعالى : ( أن نقول له كن فيكون ) وكقول الشاعر : أوحى لها القرار فاستقرت (١).
وأصل الوحي هو : الإشارة السريعة على سبيل الرمز والتعريض وما مجرى الإيماء والتنبيه على الشيء من غير أن يفصح به (٢).
وقد يكون أصل الوحي في اللغة كلها الإعلام في خفاء (٣). ومؤدى ذلك واحد ، إذ الإشارة السريعة إعلام عن طريق الرمز ، والرمز إيماء يستفيد منه المتلقي أمرا إعلاميا قد يخفى على الآخرين (٤).
ولهذا فقد كان الراغب دقيقا حينما عرض لمصطلح الوحي وقسمه فيما تنبه اليه بين القابل له والمستعصي عليه ، إلا أن يكون ذلك تسخيرا من قبل الله تعالى ، فقال : « فإن كان الموحى إليه حيا فهو إلهام ، وإن كان جمادا فهو تسخير » (٥).
لهذا فقد ذهب الطبرسي ( ت : ٥٤٨ هـ ) الى أن أوحى لها : أي ألهمها وعرفها بأن تحدث أخبارها .. من جهة تخفى (٦).
والسياق إنما يقوم على قوة هذه الفاعلية في تصوير هول الموقف الذي يدهش له الإنسان فيقول في عجب وقلق ما لها؟ فاقتضى أن يأتيه
__________________
(١) ظ : الزمخشري ، الكشاف : ٤/٢٧٦.
(٢) قارن بين ذلك في : الراغب ، المفردات : ٥١٥. الطبرسي ، مجمع البيان : ٥/٣٧.
(٣) ظ : ابن منظور ، لسان العرب ٢٠/٢٥٨.
(٤) ظ : المؤلف ، ظاهرة الوحي والمستشرقون. « بحث » في كتاب : ( المستشرقون وموقفهم من التراث العربي الإسلامي ) وقائع المؤتمر العلمي الأول لكلية الفقه : مطبعة القضاء ، النجف ، ١٩٨٦ م.
(٥) الراغب ، المفردات : ٥١٥.
(٦) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : ٥/٥٢٦.
١٠٣
الجواب ( بأنّ ربّك اوحى لها (٥) )(١).
تحدث به الأرض نفسها تلقائيا ؛ فالإيحاء هنا مباشرة ، ليلائم إسناد التحدث الى الأرض. وسر قوته في أنه كذلك(٢).
٣ ـ ومسايرة المجاز للنفس الإنسانية لا تقف عند حد معين ، ولا تختص بأقوام دون آخرين ، فالعبرة فيها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ومع هذا فقد نلتقط بعض الشذرات النادرة ، والتحف الثمينة في هذه الظاهرة المتأصلة ، ومن ذلك ما أورده تعالى في سورة الضحى من أقسام وأيمان كان للمجاز العقلي فيها نصيب متميز ، كما في قوله تعالى : ( والضّحى (١) والليل إذا سجى (٢) )(٣).
وسيأتي إبراز المجاز الإسنادي الحكمي لهذه الآية في محلها من فصل « المجاز العقلي في القرآن » والمهم هنا أن نبين أن القرآن العظيم كما توجه لإثارة النفس عند الناس ، فكذلك توجه لتهدئة النفس الإنسانية عند ذي أقدس نفس بشرية ، وهو الرسول الأعظم محمد 6 ، وبذلك يستوعب المجاز القرآني ، النفوس الاعتيادية والنفوس المقدسة الشريفة ، وقد تنبهت الدكتورة بنت الشاطىء لهذا الملحظ ونحن نؤيدها فيه بحدود.
« المقسم به في آيتي الضحى ، صورة مادية ، وواقع حسي ، يشهد به الناس تألق الضوء في ضحوة النهار ، ثم يشهدون من بعده فتور الليل إذا سجا وسكن. يشهدون الحالين معا ، في اليوم الواحد ، دون أن يختل نظام الكون ، أو يكون في توارد الحالين عليه مما يبعث على إنكار ، بل دون أن يخطر على بال أحد ، إن السماء قد تخلت عن الأرض وأسلمتها الى الظلمة الموحشة ، بعد تألق الضوء في ضحى النهار ».
فأي عجب في أن يجيء ، بعد أنس الوحي وتجلي نوره على المصطفى 6 ، فترة سكون يفتر فيها الوحي ، على نحو ما نشهد من الليل الساجي يأتي بعد الضحى المتألق (٤).
__________________
(١) الزلزلة : ٥.
(٢) ظ : بنت الشاطىء ، التفسير البياني : ١/٩٧.
(٣) الضحى : ١ ـ ٢.
(٤) بنت الشاطىء ، التفسير البياني : ١/٢٦.
١٠٤
منقول عن:مجاز القرآن خصائصه الفنيّة وبلاغته العربيّة
للدكتور محمد حسين علي الصّغير
لاشك أن اللغة العربية الفصحى تتمتع بخصائص ومزايا بلاغية متعددة ، تتمثل بالمعاني تارة ، وإن حملنا المعاين على معاني النحو بخاصة ، وبالبيان العربي تارة أخرى ، ونريد به أركانه الكبرى كما سيأتي ، وبجرس الألفاظ ومصطلحات البديع والمحسنات لفظية ومعنوية أحيانا إلا أن علم البيان بأركانه الأربعة : المجاز ، التشبيه ، الاستعارة ، الكناية هو ملتقى هذه الخصائص ، وعماد تلك المزايا.
فالمجاز بقسمة : العقلي واللغوي. والتشبيه بأسسه : المشبه ، المشبه به ، وجه الشبه ، أداة التشبيه. والاستعارة بأصول الشبه الاستعاري : الحسيين ، العقليين ، الحسي في المشبه والعقلي في المشبه به ، وبالعكس ، مضافا الى أقسام الاستعارة ، التمثلية ، والتصريحة ، والمكنية والأصلية ، والتبعية ، ... الخ.
والكناية بتعبيرها المهذب ، في أقسامها كافة ، كناية الصفة ، كناية الموصوف ، كناية النسبة ، وبأرتباطها الفني والبلاغي في كل من التعريض والرمز.
هذه المفردات والتوابع والفروع والأقسام والأصناف المتشبعة المتطاولة ، لو أردنا رطها واحد متميز ، ولو حاولنا حصرها بفن من الفنون لكان ذلك المجاز بل المجاز وحده ، إذ يصح إطلاقه ـ بإطاره العام ـ عليها ، كما هي الحال عند الرواد من الأعلام لذلك فالمجاز يحتل الصدارة في إطار هذه الفنون ، ويشكل الظل المكثف في أفياء هذه الخيمة البلاغية ، حتى ليصح لنا أن نسمي لغتنا العربية بلغة المجاز بالمعنى الذي أشار إليه المرحوم الأستاذ العقاد بقوله : « اللغة العربية لغة المجاز ،
٨٥
لا لأنها تستعمل المجاز ، فكثير من اللغات تستعمل المجاز كما تستعمله اللغة العربية ، ولكن اللغة العربية تسمى لغة المجاز لأنها تجاوزت بتعبيرات المجاز حدود الصور المحسوسة الى المعاني المجردة ، فيستمع العربي الى التشبيه فلا يشغل ذهنه بأشكاله المحسوسة إلا ريثما ينتقل منها الى المقصود من معناه »(١).
لذلك نميل الى أن اللغة العربية ـ دون سواها من لغات العالم ـ تتميز بخصائص بلاغية ، والبلاغة العربية ـ وهي الأصل في البلاغة العالمية دون تأثير إغريقي أو أجنبي ـ تتمتع بخصائص فنية ، والمجاز في صيغيته البيانية يحتضن كلا من الخصائص في اللغة والبلاغة معا ، لأن أصل البلاغة المجاز ، واللغة العربية لغة المجاز ، فصغروية المقارنة بكبرويتها أوصلت الى هذه النتيجة البديهية ضرورة كما هو تعبير المناطقة في استخلاص الحقائق وبرمجتها منطقيا في شؤون الاستدلال قياسيا أو بديهيا.
ولا غرابة في هذا الملحظ الاستقرائي لطبيعة الأشياء ، فالمجاز فن أصيل في لغة العرب ، له مقاييسه الفنية ، ومعاييره القولية عند العرب بخاصة ، لأنه يعنى بإرادة المعاني المختلفة ، وهم يميلون الى هذا الموروث الحضاري ، وهو يعنى أيضا بتقليب وجوه اللفظ الواحد لا في الأشياء والنظائر بل في المعاني الثانوية ، فينتقل باللفظ من وضعه الأصلي المحدد له مركزيا ، الى وضع جديد طارىء عليه تجدده العلاقات الفنية ، وهذا من أهم الخصائص التي يمتاز بها المجاز ويؤهله للتوسع في اللغة ، وذلك بإضافة المعاني الجديدة الى نفس اللغة بنفس الألفاظ مرتبطة بأصول بلاغية لا تخرجها عن دلالتها الأولى في جذورها اللغوية في أصل الوضع ، بل تضيفها اليها توسعا بإرادة المعاني الثانوية هذه ، ولا تكون هذه الإرادة إلا بمناسبة ، ولا المعاني المستحدثة إلا بقرينة ، وبذلك يتحدد الاستعمال المجازي وتحدد دلالته أيضا بضوابط أساسية تدفع عنه النبو والارتجال ، وتحفظه من الأغراب والابتعاد عن الذائقة الفطرية عند المتلقي ؛ فقد يكون القمر وجها ، والجبل وقارا ، والغصن اعتدالا ، والبان قواما ، ولكن لا
__________________
(١) عباس محمود العقاد ، اللغة الشاعرة : ٤٠.
٨٦
يكون القمر يدا ، ولا الجبل وجها ، ولا الغصن عينا ، ولا البان فما ، مراعاة المناسبة ـ إذن ـ ووضوح القرينة ، مانعان من الخلط المرتجل ، وضابطان من المجاز المشوه.
لهذا كثر استعمال المجاز في لغة العرب شعرا ونثرا وصناعة من أجل توظيفه في شؤون الحياة الاجتماعية من جهة ، ومن أجل إضافة مخزون تراثي متطور الى لغتهم المتطورة من جهة أخرى فعمدوا الى المعاني الرائعة فنظموها في معلقاتهم قبل الإسلام ، ووقفوا عند الأغراض القيمة فصبوها بخطابتهم في الأسواق الأدبية الشهيرة ، فكان للمجاز أثره في الإبداع ، وللانتقال به الى المعاني الجديدة بادرته في التجديد اللغوي والبلاغي في فن القول ـ حتى عاد المجاز بحق معلما بارزا في تراثهم ، بل ظلا شاخصا في حياتهم الأدبية ، فهو عندهم معني بالثروة الاحتياطية للمعاني ، والثورة الاحترازية للألفاظ. فالمجاز على هذا بخصائثه الفنية ثروة لغوية ، وثورة فنية ، هذه الثروة وتلك الثورة فيهما إشاعة روح اليسر والمرونة والسماح لتجاوز حدود الحقيقة اللغوية الى ما يجاورها ويقاربها ، أو ما يضاف اليها إمعانا في الابتكار ، وصيانة للتراث من التدهور والضياع. ولقد كانت النقلة في خصائص المجاز الفنية ، نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا ، وأبلغ تعبيرا ، وأوجز لفظا ، والألفاظ هي هي دلالتها الأولية.
هذه الحقائق متوافرة السمات في كلام العرب منذ عهد مبكر ، ومصنفات الأعلام في المعلقات والأمالي والمنتخبات والحماسة غنية بأصول هذا الفن وبشائره الأولى في عصر ما قبل الإسلام وصدر الإسلام والعصر الأموي في الصناعتين.
فإذا وقفنا عند هذا المعلم في القرآن العظيم وجدناه من خلاله : يشيع الحياة في الجماد ، والبهجة في الأحياء ، والحسن إلى الكائنات ، ويحدب أيضاً على سلامة الألفاظ في المؤدى ، وتهذيب العبارة في الخطاب ، وتنزيه الباري عن الأنداد ، وصيانة ذاته عن الجوارح ، وعلوه عن الحركة المجيء والانتقال والتشبيه.
وهنا يقترن الغرض الفني بالغرض الديني ، وذلك من خصائص التعبير المجازي في القرآن ، فغذا استدرجه تذوقاً نطقياً ، أو تجاوباً سمعياً ، علمت
٨٧
مدى تعلقه بتهذيب المنطق ، وإصلاح الأداء فلا زلل في اللسان ، ولا فهاهة في النطق ، ولا خشونة في الألفاظ.
خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم تنطلق من مهمته الإبداعية ، ومن مهمته الإضافية للتراث ، ومن مهمته التهذيبية للنفس ، ومن مهمته التنزيهية للباري .. هذه المهمات وظائف أساسية في منظور المجاز القرآني ، وهو مؤشرات صلبة تحدد لنا تحرير الألفاظ ، وتوجيه المعاني في خصائص المجاز القرآني التي لمسناها في الأسلوب والنفس ، ومظاهر الاستدلال العقلي ، وعلى هذا فسنقف عند الخصائص الأسلوبية ، والنفسية ، والعقلية للمجاز القرآني فحسب ، فهي بعمومها تشكل المناخ الفني لخصائص هذا المجاز ، ذلك من تتبع مجالات الاستعمال في الأعم الأغلب من مجاز القرآن.
٢ ـ الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن
خصائص المجاز اللغوية في القرآن الكريم ، فضلا عن كونها خصائص فنية من وجه ، ومؤشرات إعجازية من وجه آخر ، فهي بمفهوم غير اعتباطي خصائص أسلوبية متطورة للموروث اللغوي. في المجاز تدرك مركزيا أن اللفظ هو اللفظ ، لم يتغير ولم يتبدل حروفا وأصواتا وهيأة ، والمعنى لهذا اللفظ ذاته هو المعنى نفسه لم ينقص عنه شيئا ، إلا أنه قد ازداد معنى غير المعنى الاولي في دلالته الثانوية الجديدة حينما يراد به الاتساع الى الاستعمال المجازي ، وبتطور ذهني ، وتصور متبادر إليه ، من خلال السياق والإرادة والمغادرة المعنوية لأي لفظ من الألفاظ موقعة الى موقع أرق ، وحدث أكبر ، فهو في حالته المثبتة في معجمه الأجتماعي لم يتغير معناه الحقيقي في استعماله الحقيقي ، وإنما بقي على ماهو عليه ، وقد كانت القرينة الدالة على المعنى الإضافي هي الصارفة عن المعنى الأولي الى سواه في الاستعمال المجازي ، سواء أكانت القرينة حالية أم مقالية.
هذا التركيب الجديد في العبارة في الألفاظ المفردة في المجاز اللغوي وفي العلاقات بين الألفاظ في المجاز العقلي ، يستغين بها المتلقي
٨٨
عن كل التراكيب المماثلة أو المخالفة في المعاني المرادة في البنية اللغوية ، فالإيجاز خصيصة أسلوبية في هذا الملحظ ، والتطوير خصيصة ثانية في هذا الأسلوب ، فلا حاجة الى إسناد جملي جديد يسد مسد التركيب المجازي في اللفظ المفرد الموضوع لأصل ويقل عنه تفريغا وتنويعا الى معان مبتكرة ، يستغنى بذكرها مفردة مجازية منها عن إنشاء آخر للدلالة على تلك المعاني.
وقد يقال : وما هذا الالتواء في اصطياد المعاني المستحدثة من ذوات الكلم وأنفس الألفاظ ، ولماذا لا نغير العبارة ونأتي بها على صيغتها في الأصل للدلالة على المعنى الأصل دون تجوز ومغادرة للدلالة المركزية في هذا اللفظ أو ذاك. وللإجابة عن هذه المقولة لا بد من التنويه بالحقائق المنهجية لمسيرة لغة القرآن العظيم ، وهي لغة غير جامدة ، تستمد معينها الثر مواصفات أكثر عمقا من سطحية التقول والأفتراض الذي قد يجانب الواقع اللغوي لطبيعة هذه اللغة الكريمة.
كان العرب بفطرتهم النقية أئمة بيان لا شك في هذا ، والبيان العربي ذو جذور معرفة في القدم والأصالة يتكون مجموعه من عشرات الآلاف من الألفاظ ، ولو كررت الألفاظ نفسها لكان الكلام واحدا ، والتفاوت في الجودة والامتياز متلاشيا ، وإذا كان الكلام واحدا والتفاوت بين أبعاده مفقودا ، لذهبت خصائص البيان الأسلوبية ، ولأصبحت حالته متفردة ، غير قابلة للتفاضل ، واذا تحقق هذا ، فقد فقدت البلاغة العربية موقعها ، والبيان العربي مميزاته ، وحينما يكون المنظور الى الفن القولي متساويا ، فما معنى الإعجاز البياني واللغوي والبلاغي في القرآن الكريم ، وما هي عائدية قوله تعالى في التحدي للبشرية جمعاء حينما يصرخ :
( وإن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين (٢٣) )(١).
هذا التحدي قائم منصلتا على الإعجاز في القرآن ويعني هذا عجز الكائنات البليغة عن الإتيان ولو بسورة واحدة من جنس هذا البيان ، وعدم
__________________
(١) البقرة : ٢٣.
٨٩
الاتيان من مثله دليل أصالة القانون البديهي بتفاوت درجات الكلام ومنازله ، فكان القرآن أعلاها دون ريب ، وكان معجزا بحق. ولو تساوى الكلام لانتهى الإعجاز ، ولما كان الإعجاز باقيا كان بالضرورة تفاوت الكلام ، وتفاوت الكلام إنما يتحقق بإيراد المعنى في طرق بيانية مختلفة وسبل هذه الطرق واضحة ، وركيزتها الأركان الأربعة : المجاز ، التشبيه ، الاستعارة ، الكناية ، والتشبيه والاستعارة جزءان من المجاز ، والكناية تعني المعاني الثانوية بل معنى المعنى بالضبط ، فأركان البلاغة الأربعة جميعا قائمة على المجاز بمعناه العام ، وهو المراد. إذن الدلالة المجازية في الألفاظ ، منحة إضافية تمثل مرونة اللغة في الانتقال ، وتطورها عند الاستعمال. وهذه الدلالة تقوم بعملية تصوير فني موحية ، بإضافة جملة من المعاني الجديدة التي تدعم الزخم اللغوي ، وتؤنق في عباراته دون تكلف أو تعسف ، أو اقتراض للمفردات من اللغات الأجنبية أو المجاورة ، لأنها تعود بذلك غنية عن أية استدانة معجمية من أية لغة عالمية أو إقليمية ، هذا التأنق في اختيار المعاني ، وهذا الأكتفاء في مفردات الألفاظ ، مما يتماشى مع مهمة البلاغة العربية في مطابقة الكلام لمقتضى الحال ، ومما يتلاءم مع الخصائص الأسلوبية للمجاز في رفد المخزون الدلالي للألفاظ. لهذا فقد كان سليما ما قرره في هذا المجال في صديقنا المفضال الدكتور عبد الله الصائغ من اعتباره المجاز « عبارة عن مغادرة المفردة لدلالتها المعجمية لتموين دلالة جديدة تسهم في الاتساع والتوكيد والادهاش »(١).
* * *
والمجاز بعد هذا : هو حلقة الوصل بين الذات المعبرة وإراداتها المتجددة في المعاني المستحدثة ، وهذا بعينه هو التطور اللغوي في اللغة الواحدة ذات المناخ العالمي في السيرورة والانتشار. وهما سمة لغة القرآن.
وهنا يجب أن لا يتطرق في انطباق مفهوم المجاز وحقيقته
__________________
(١) عبد الإله الصائغ ، الصورة الفنية معيارا نقديا : ٣٧٠.
٩٠
الاصطلاحية على صنوف التعبيرات اللغوية ، حتى وإن أريد بها معناها الأصل ، لأن ذلك مما يشوه حقيقة البيان ، ودلالته البلاغية ، ومما يحمّل الكلام كثيرا مما لا تحتمل طاقته التي تنهض به الى مستوى التعبير الأدبي ، فيعود ذلك تكلفا دون ضرورة اليه ، وتمحلا ، دون اتكاء البيان عليه ، والتمحل والتكلف وسواهما من التعسف أحيانا مما ترفضه سجية النصوص الأدبية الراقية لا سيما في القرآن العظيم.
إلا أن ظاهرة هذا التكلف شائعة بين النحاة من جهة ، وبين جملة من المفسرين من جهة أخرى ، وقد تكون بينهما معا إذا كان المفسر نحويا أو النحوي مفسرا ، وهذا مما يؤسف الوقوع فيه ، والتمسك به ، لأنه قد يتعارض بشكل وآخر مع الخصائص الأسلوبية لمجاز القرآن.
خذ مثلا قوله تعالى : ( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم ... ) (١) فقد ذهب بعض الأستاذة المعاصرين : أنهم قالوا أن فيه إطلاق الكل على البعض ، والمراد تعجبك وجوههم ، لأن الأجسام لا ترى كلها ، وإنما يرى الوجه فحسب ، ولا أرى تأويلا أبعد من هذا التأويل عن روح الآية ، فالجسم وإن كان لا يرى كله ، فمن المستطاع أن يدرك الإنسان بنظرة ما عليه الجسم من جمال يبعث على الإعجاب ، وقد لا تريد الآية : تعجبك وجوههم ، ولكنها تريد يعجبك ما عليه أجسامهم من ضخامة ، وما يبدو فيها من مظاهر النماء والقوة ، وما عليه وجوههم من جمال ونضرة (٢).
هذه الملحوظة وما قاربها ، لا تخلو من وجه سديد فيما يبدو ، إذ لا معنى للتكلف المفرط الذي يخرج النص عن ذائقته الفطرية ، تصيدا لمعان قد لا تراد ، ووجوه لا تستحسن ، وعلاقات قد لا تستصوب.
وقد تنبه أستاذنا المرحوم الدكتور أحمد عبد الستار الجواري الى هذا المأخذ فعالجه وأشباهه معالجة فاحصة ، ونقده بأدب واتزان تامين ، فمس النحاة والمفسرين مسا رقيقا ، وعاتبهم عتابا جميلا ، وهو في معرض الحديث عن هذه البادرة مضافا الى الاستعمال القرآني الدقيق فقال : « ومن
__________________
(١) المنافقون : ٤.
(٢) أحمد أحمد بدوي : من بلاغة القرآن : ٢٢٤.
٩١
لطائف الاستعمال القرآني كثرة ورود المصدر وصفا إما على سبيل الإسناد خبرا ، أو على سبيل النعت أو الحال. قال تعالى في سورة الإسراء :
( نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى ) (١).
وقال تعالى في سورة الكهف :
( فعسى ربّي أن يؤتين خيرا من جنّتك ويرسل عليها حسبانا من السّماء فبصبح صعيدا زلقا (٤٠) أو يصبح ماؤُها غورا فلن تستطيع له طلبا (٤١) ) (٢).
والمصدر في الآية الأولى خبر المبتدأ ، وهم يزعمون أن اسم المعنى لا يخبر به عن اسم الذات فتأمل. وفي الآية الثانية خبر الفعل الناسخ.
وقال تعالى في مورة الفرقان :
( وعباد الرّحمن الّذين يمشون على الأرض هونا ) (٣) يقول الزمخشري : « هونا حال أو صفة للمشي ، ... إلا ان وضع المصدر موضع الصفة مبالغة » (٤).
ويعقب المرحوم الدكتور الجواري على هذه الظاهرة بقوله : « وهذا ديدن النحاة إذ أنهم يجنحون إما الى التأويل بتقدير مضاف حتى يكون هو المصدر صالحا لوصف اسم الذات أو الإخبار عنه ، وإما الى تفسيره على صورة المبالغة والمجاز. على أن شيوع هذا الاستعمال ووفرته يشعران بأن التأويل والتقدير وصرف المعنى الى المجاز والمبالغة أمور لا ضرورة لها ولا سبب ، بل أنها قد تخرج العبارة عن المعنى الذي قصدت إليه » (٥).
وقد يقترن الاستعمال الحقيقي بالتعبير المجازي في القرآن ، لتأكيد حقيقة كبرى ، وتصوير معلم بارز من معالم الأحداث المهمة ، يشكل من خلالهما القرآن خصائص أسلوبية مميزة في العرض والأداء والتعبير ، حتى
__________________
(١) الإسراء : ٤٧.
(٢) الكهف : ٤٠ ـ ٤١.
(٣) الفرقان : ٦٣.
(٤) الزمخشري ، الكشاف ٣ : ١٠٣.
(٥) أحمد عبد الستار الجواري ، نحو القرآن : ٦٩ ـ ٧٠.
٩٢
تعود تلك الخصائص ظاهرة لغوية معينة يؤكدها أسلوب القرآن المرة بعد الأخرى ، وتمثلها في كتاب الله تعالى عند الآية ، هذه الخصائص تتجسد بأبرز مظاهرها الفنية في إسناد الحدث الى غير فاعله ، وتحاشي ذكر المسبب في إيجاده ، وكان القرآن في هذا وذاك يريد التوجه الجدي الحثيث منصبا الى الحدث ذاته ، والتفكير منحصرا في أبعاده دون النظر في الفاعل والمبدع له ، أنى كانت نوعيته وكيفيته ، وهذا ما حدب على تصويره القرآن في مظهرين عظيمين حينما يتحدث عن يوم القيامة مثلا. المظهر الأدل في مجاله ، الحقيقي وتعبيره الأستعمالي الأصل :
١ ـ يتحدث النص القرآني عن أحداث الساعة ، والتزلزل الكوني في العالم عندها ، والتغيير المفاجىء لمعالم الدنيا البصرية والحسية ، فتجيء صفة الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول في عشرات الأيات بل مئاتها من القرآن ، ولنقف عند سورة التكوير :
( إذا الشّمسُ كوّرتْ (١) وإذا النُّجوم انكدرتْ (٢) وإذا الجبال سيّرت (٣) وأذا العشار عطلّت (٤) وإذا الوحوش حشرت (٥) وإذا البحار سجّرت (٦) وإذا النّفوس زوّجت(٧) وإذا الموءودة سئِلت (٨) بأيّ ذنب قتلت (٩) وإذا الصّحف نشرت (١٠) وإذا السّماء كشطت (١١) وإذا الجحيم سعّرت (١٢) وإذا الجنّة أُزلفت (١٣) علمت نفس مّا أحضرت(١٤) )(١).
وباستقراء هذه الآيات الاربع عشرة ، نجد منها اثنتي عشرة أية قد بنيت أفعالها للمجهول ، وطوي ذكر الفاعلى فيها وهي :
كورت ، سيرت ، عطلت ، حشرت ، سجرت ، زوجت ، سئلت ، قتلت ، نشرت ، كشطت ، سعرت ، أزلفت.
والقارىء للقرآن يدرك بالفطرة المودعة لديه ، أن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى بقدرته ، أو بأمره ، أو بإرادته ، أو بتوجيهه لملائكته في تنفيذ ذلك ، فصدوره عنه لا شك في ذلك لأنه الجامع بين هذه الأشتات ، والمنظم لهذه المتفرقات ، أوجدها وسخرها وأنطقها ورتبها ، ولكن
__________________
التكوير : ا ـ ١٤.
٩٣
الخصائص الأسلوبية لهذا النص لا تتعلق بمحدث هذه الأفعال وموجدها ، وإنما العناية متجهة نحو الحدث ، ولفت الأنظار حوله ، والعناية به. لتكون العبرة أشد ، واليقظة أعظم.
٢ ـ وفي التعبير المجازي قد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي ، تأكيدا على هذه الظاهر ، وكأن الفعل متلبس بالفاعل ، وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل إليه ففعله ، وإن يكن لهذا الفاعل حول أو طول ، أو ليس من شأنه ذلك بل المحدث غيره في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( أقتربت السّاعة وأنشق القمر (١) )(١).
ب ـ ( يوم تمور السّماء مورا (٩) وتسير الجبال سيّرا (١٠) )(٢).
ج ـ ( اذا السّماء انفطرت (١) وإذا الكواكب انتثرت (٢) )(٣).
د ـ ( فارتقب يوم تأتي السّماء بدخان مّبين (١٠) )(٤).
وواضح أن الساعة لا تقترب تلقائيا ، وأن القمر لا ينشق ذاتيا ، وأن الساء لا تمور إراديا ، وأن الجبال لا تسير اختياريا ، وأن السماء أيضا لا تنفطر من نفسها ، وأن الكواكب لا تنتثر بحالها ، وأن السماء لا تأتي بدخان مبين بإرادتها. وأنما أضيف لها الفعل لتضخيم الحدث ، وليتجه التفكير نحوه ، فالفاعل الحقيقي هو غير ما أسند إليه الفعل وتأتي ، فالساعة تقترب حتما ، والقمر ينشق قطعا ، والسماء تمور وتنفطر وتأتي بالدخان مسخرة ، والجبال تسير لا شك في هذا ، والكواكب تنتثر من تلقاء نفسها ، ولا يحتاج كل هذا الى كبير أمر ، فقد سخرها ربها لتلقي الحدث فهي صاحبته في مناخ قاهر لا عهد لها به ، فتتطوع بهذه الأفعال بذاتيتها دون التلويح الى الفاعل الحقيقي.
ومما يؤسف له حقا أن ينشغل أكثر المفسرين عن هذا الملحظ
__________________
(١) القمر : ١.
(٢) الطور : ٩ ـ ١٠.
(٣) الانفطار : ١ ـ ٢.
(٤) الدخان : ١٠.
٩٤
الدقيق ، وهذه الظاهرة الأسلوبية النموذجية الى الخوض في تفصيلات الفاعل ، وتأويل صدور الفعل عنه.
تقول الدكتورة عائشة عبدالرحمن ، ونحن نوافقها في هذا العرض ، لأنه من صميم منهجنا البياني :
« وقد شغل أكثر المفسرين والبلاغيين بتأويل الفاعر ، عن الالتفات الى اضطراد هذه الظاهرة الأسلوبية في هذا الموقف ، مع وضوحها الى درجة العمد والإصرار : وسرّها البياني دقيق جليل : فاطراد إسناد الحدث الى غير محدثة ، بالبناء للمجهول ، أو الإسناد المجازي ، أو المطاوعة ، يدل على التلقائية التي يكون بها الكون كله مهيئا للحدث الخطير ، وأن الكائنات مسخرة بقوة لدلك الحدث ، فما تحتاج فيها الى امر ، ولا الى فاعل ... وفيه كذلك ، تركيز الانتباه في الحدث ذاته ، وحصر الوعي فيه ، فلا يتوزع في غيره »(١).
٣ ـ وإذا جئنا الى الاتساع اللغوي في مجاز القرآن وجدنا ظاهرة أسلوبية شامخة ، وفصل المجاز اللغوي في القرآن يؤكد هذه الظاهرة بجميع أبعادها في التجوز والاتساع والمرونة ، وفيه غنية عن الإفاضة في هذا المدرك لأنه حافل بدلائل سلامة اللفظ اللغوي ، وسيرورته في المعاني الجديدة التي لا تعامل الأصل باعتباره منسوخا أو مستغنيا عنه ، بل هو هو وهو مضاف إليه هذا الاتساع.
تأمل في هوله تعالى : ( والله محيط بالكافرين ) (٢) فإنك ستجد بيسر وسهولة كلمة « محيط » غير متخلية عن المعنى الأصل ، ولكنها على الصعيد المجازي ، تحمل دلالة بارزة جديدة ، تتعدى معنى الإحاطة التقليدية ، التي اعتاد السامع إدراكها مركزيا من اللفظ ، فليست إحاطته تعالى ههنا إحاطة مكانية ، أو طلية ، أو جسمية ، كإحاطة القلادة بالجيد ، أو السوار بالمعصم ، أو الخاتم بالبنان ، وإنما هي إحاطة مجازية مطلقة عن حدود الإحاطات المتعارفة ، وبديهي أن يراد بها إحاطة ذي القوة بمن ليس له
__________________
(١) بنت الشاطىء ، التفسير البياني : ١/٨٥.
(٢) البقرة : ١٩.
٩٥
قوة ، وذي الحول بمن لا حول له ، وكإحاطة ذي الشأن بمن لا يدانيه سيطرة وإعدادا ، إذ لا يمكن أن تفسر هذه الإحاطة بالمكان ، وإن استوعبت حدود كل مكان ، لأن الله تعالى فوق حدود المكان ، وإذا كان الأمر كذلك ، ويبدوا أنه كذلك ، فلا بد من رصد هذه الظاهرة بهذا المدرك الاتساعي في التجوز باللفظ ذاته ، وحمله على المعنى الذي أشار اليه الزمخشري ( ت : ٥٣٨ هـ ) في قوله : « والمعنى أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به حقيقة »(١).
إن الذائقة الفنية في مثل هذه الظواهر تمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن ، إذ تجدد القدرة الخارقة في كل نموذج آنف على استيحاء التلازم الذهني بين الأصل الحقيقي والفرع الاستعمالي لمناسبة ما في تنقله من معنى أولي الى معنى ثانوي ، وهو يهز المشاعر حينا ، ويصون التراث حينا آخر ، ويحدث ذلك عادة في وقت واحد وبتفكير جملي متحد. وهذا من خصائص الأسلوب المجازي في القرآن.
٣ ـ الخصائص النفسية في مجاز القرآن
ليس أمرا سهلا ، أن يساير النص الأدبي النفس الإنسانية ، وليس هينا أن تتطلب النفس أيضا نصا أدبيا ، فالنفس جموح لا تهدأ ، وغروف لا تكبح ، وشرود لا يسيطر عليها نص اعتيادي ، أو فن قولي ، دون أن تتمثل به أرقى مميزات الانجذاب التلقائي ، والبعد النفساني المتوازن ، فتقبل عليه النفس اشتياقا أو إيناسا ، وتعزب عن سواه نفورا أو إيحاشا.
النص وجودته وحدهما يهيئان المناخ المناسب في النفس الإنسانية إقبالا على النص أو عزوفا عنه. ومن ثم فالمجاز القرآني وهو ينقل اللفظ من صورة الى صورة أخرى على النحو الذي يريده المصور ، فإن أراد منهها في صيغتها الحقيقية. فأنت تستطيع في المجاز تكييف النص الأدبي نحو المعنى المراد ، دون توقف لغوي أو معارضة من دلالة اللفظ
__________________
(١) الزمخشري ، الكشاف ١ : ٨٥.
٩٦
المركزي ، وذلك بحسب ما تريده من إثارة النفس ، أو إلهاب العاطفة ، أو إذكاء الشعور في حالتي الترغيب والتنفير ، وهما حالتان متعلقتان بالحس العاطفي لدى الإنسان ، وناظرتان الى الانفعالات الوجدانية في النفس الإنسانية.
أ ـ في توجيه النفس نحو الترغيب تقف على « قاصرات الطرف » في حكايتها المجازية من قوله تعالى :
( وعندهم قاصرات الطرف عين (٤٨) كأنّهن بيض مكنون (٤٩) )(١). والحدث حقيقي الوقوع بأبعاده التصويرية المتأنقة ، ولكنك ترى ما في الوصف ، والتعبير عن النساء بقاصرات الطرف وليس في طرفهن قصور ، من التراصف البياني المرتبط بإثارة النفس للتعلق بمن تنطبق عليه هذه العبارة ، أو تتحقق فيه هذه الأوصاف التي تطمئن اليها الروح الإنسانية وتهش لها الذات البشرية ، ويتطلع اليها الخيال متشوقا مع نقاء الصورة ، ولطف الاستدراج ورقة الترغيب المتناهي ، فقد وصف نساء أهل الجنة بحسن العيون الناظرة الى أزواجها فحسب عفة وخفرا وطهارة ، دون التردد في النظر الى هذا وذاك ، وأضاف الى هذا الملحظ التشبيه الحسي بالبيض المكنون على عادة العرب في وصف من اشتد حجابه ، وتزايد ستره ، بأنه في كن عن التبرج ومنعة من الاستهتار.
ب ـ وأما في التنفير ، فتزداد النفس عزوفا ، وتتوارى عن الصورة المتخيلة أو المتجسدة نفورا ، حتى يبدوا الإشمئزاز منها واضحا ، والاستهانة يوخامتها متوقعا فضلا عن الهلع والرعب في صورة الهلع والرعب ، والخوف والتطير في نموذج الخوف والتطير إذا حققت هذا أو ذاك الصورة الشديدة في التنظير المجازي ، وإن شئت فضع يدك على الدلالة المجازية في إرسال الريح العقيم على عاد وهي ( ما تذر من شيء أتت عليه ) من قوله تعالى : (وفي عاد إذ ارسلنا عليهم الريح العقيم (٤١) ما تذر من شيء أتت عليه إلاّ جعلته كالرميم (٤٢) )(٢).
سترى كيف ازدادت عندك الحالة المتصورة سوءا ، وكيف نفر منها
__________________
(١) الصافات : ٤٨ ـ ٤٩.
(٢) الذاريات : ٤١ ـ ٤٢.
٩٧
طبعك فرارا ، فما هو شأن هذه الريح المشومة التي أسند إليها التدمير التام ( ما تذر ) وأسندت إليها الفاعلية في يسر ومطاوعة ( أتت ) حتى جاءت بعذاب الاستئصال. فما هي خصائص هذه الريح بهذه المطاوعة في التسخير للهلاك العام حتى عاد كل شيء ( أتت عليه ) كالورق الجاف المتحطم ، نظرا لشدة عصفها ، وسرعة تطايرها ، وخفة مرورها.
وحديث النفس في مجاز القرآن ذو سيرورة وانتشار حتى عاد جزءا قويما من خصائصه الفنية دون ريب ، وهو يتجلى في عدة مظاهر تقويمية يمكن الإشارة إليها بما يلي :
١ ـ في نماذج المجاز القرآني نجد دلالة ذات أهمية مشتركة بيانية ونفسية في آن واحد ، يعبر في هذه الدلالة عن علاقة اللغة بالفكر ، والفكر بالعاطفة ، والعاطفة بالنفس.
وفي هذا الخصوص كثيرا ما يفجؤك المجاز القرآني وقد تعدى حدود اللغة الى النفس ، ومناخ الاتساع الى الخيال ، فهو طالما تجده يسند الاحساس الى الجماد ، فيصفه بالفاعلية ، لتتوجه النفس اليه وينحصر الحدث به وكأنه فاعله ، ويريك الحركة وهي دائبة في العوالم الصماء ، فكأنها ناطقة تتكلم ، فيصك بذلك أسماعا غير واعية ، وآذانا غير صاغية ويضفي ملامح القوة على ما لا قوة فيه ، وكأنه رائد متمكن. وليس هذا وذاك إلا من مظاهر الخصائص النفسية في الاسلوب الذي يحرك الضمائر حينا ويهز المشاعر حينا آخر ، ويبعث الخواطر سواهما ، ولعله يريد بذلك أن يفجر روافد جديدة ذات إطار تجريبي في محاكاة غير المحسوس للمحسوس ، ومماثلة الإدراك في غير المدرك كما هو في المدركات ، لأن في ذلك انتقالا في الصورة الى داخل النفوس وواقع الخبايا في النفس المعتبرة بما تضفيه المجازات القرآنية من أبعاد جديدة ، ولعل خير مايمثل هذا الاتجاه الحيوي التأمل في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وضرب الله مثلا قرية كانت ءامنة مّطمئنّة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ... )(١).
__________________
(١) النحل : ١١٢.
٩٨
ففي هذا الأنموذج الأعلى عدة استعمالات مجازية تدور حول هذا الفلك من البيان العربي الصميم ، ومهمته إذكاء الحفيظة في النفس لتلافي التقصير المتعمد في ذات الله ، فقد وصف القرية بكونها آمنة مطمئنة ، وقد علم بالضرورة أن الأمن والاطمئنان لا تتصف بهما مرافق القرية وجدرانها ، وإنما يتنعم بهما أهلها وسكانها ، فعبر مجازا عن طريق إطلاق أسم المحل وهو القرية على الحال فيها وهم الأهل والسكان.
وعبر عن الرزق بأنه يأتي والرزق ليست له حركة ولا إرادة في التنقل والقصد ، وإنما الله تعالى هو الذي يسخر من يجلب الأرزاق ، ويأتي بها ـ وهو الرزاق ذو القوة المتين ـ من كل مكان الى هذه القرية ، تعبيرا عن تنعمها وعيشها الرغيد ، وذلك ما تهش إليه النفس ، فكان الرزق دون عناء يقصدها سائرا عامدا متوافرا.
وهذا الوصف لهذا الهناء لا يمانع من الوعيد في إفنائه واستبداله بالعناء ، فكلاهما من الصور النفسية :
ب ـ ( مثل الّذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدّت به الرّيح في يوم عاصف ... )(١).
فستقف عند حقيقتين مجازيتين يرتبطان بشد النفس إليهما والوقوف بتأمل ويقظة وحذر عندهما :
الأولى : إسناد الاشتداد الى الريح ، لتهيئة المناخ النفسي لتلقي هذه الصورة ، وحصر التفكير في كيفية هذه الريح ونوعيتها ، فهي فاعلة متحركة ، دائبة ، متموجة ، طاغية ، مطاوعة ، وليس للريح حول ولا طول في الملحظ التكويني ، فلا هي مشتدة حقيقة ولا هي جارية واقعا ، وإسناد هذا وذاك إليها كان بسبيل من المجاز ، لأن تسخيرها بالله وحده ، فلا إرادة للريح ولا طواعية ، والمجاز هو الذي طوع هذه الحقيقة اللغوية ، فأعارها مناخا جديدا ، وكأن الريح قائمة ، والجري على أشده ، والحركة ذاتية.
الثانية : إسناد الفاعلية والصفة الثبوتية للزمان لمشابهته الفاعل
__________________
(١) إبراهيم : ١٨.
٩٩
الحقيقي ، فقد أسند عصف الريح الى اليوم ، وهو دال على زمان من الأزمان ، ولا تستند إليه الفاعلية حقيقة إلا على نحو المجاز ، وهو كذلك ، وهذا أيضا مما نظر فيه الى النفس ليخلص اتجاهها في تصور شدة ذلك اليوم ، وعصف ذلك اليوم ، وحديث ذلك اليوم ، دون التفكير في الهوامش والجوانب الفائضة ، فكأن المراد هو اليوم فنسب إليه العصف ، فأقام اليوم مقام المضاف المذوف في التقدير اللغوي الأصل ، فهو يوم ذو عصف إن صح ما تأولوه.
وقد يكون هذا الإدارك على سبيل التعبير عن شدة الأمر ، وقيام العصف على أشده في ذلك اليوم ، مما يهم الإنسان ، فارتبط الحدث به نفسيا ، فأسند إليه الفعل كما هي الحال في هوله تعالى :
( فكيف تتّقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا (١٧) ) (١).
يقول الدكتور أحمد بدوي معلّلا هذه النسبة نفسيا :
« ولما كان يوم القيامة تملؤه أحداث مرعبة ، تملأ النفوس هولا يتسبب عنها لشدتها الشيب ، وكان هذا اليوم ظرفا لتلك الأحداث ، صح أن يسند الشيب إليه »(٢).
٢ ـ وإذ يوصلنا الى يوم القيامة ، فإن التعبير المجازي عن هذا اليوم يزداد جلاء ، فيعكس الحدث مقترنا بذلك اليوم ، ومنسوبا الى عوالمه الصامتة ، وإذا بها ناطقة تتكلم ، ومفصحة تعرب عما في الدخائل ، ويتجلى هذا في كل من قوله تعالى :
( يومئذ تحدّث أخبارها (٤) ) (٣).
والضمير عائد الى متقدم لفظا ورتبة كما يقول النحاة ، وتقدير الكلام عندهم : تحدث الأرض أخبارها ، والحقيقة اللغوية أن يتحدث ذو النطق بألته ، وذو اللسان بأداته ، لا الجماد بعجمته ، فهل هو تمثيل يعني : أن ما
__________________
(١) المزمل : ١٧.
(٢) أحمد أحمد بدوي ، من بلاغة القرآن : ٢٢٣.
(٣) الزلزلة : ٤.
١٠٠
يحدث في ذلك اليوم ، وما يجري فيه من الشدائد الهائلة ، والشدائد تثير الهلع في النفس ، والمنظور هنا نفساني لا شك ، والتغيير الكوني يؤكد الاهتمام المتزايد لدى الإنسان ، بعد زلزلة الأرض ، وإخراج الأثقال ، وذهول الإنسان لتلك الأحداث الجديدة ، فهو يتسائل في حيرة وعجب واستغراب : ( وقال الأنسان ما لها (٣) ) (١) فإذا أضفنا إليها السماوات بعوالمها ، والأرض بكل مواقعها :
( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار ) هذه الكائنات كلها ناطقة بجمهرة من الأحداث ، فهي تتحدث عنها ، وتفصح عن أهوالها ، كما يقال : رزء يعبّر عن كارثة ، وخطب ينبي عن شدة ، وليس الرزء معبرا حقيقة ، ولا الخطب بمنبىء.
هذا المدرك المجازي يميل إليه الزمخشري بقوله : « والتحديث مجاز عن أحداث الله تعالى فيها من الأحوال ما يقوم مقام التحديث باللسان » (٢). وهو الذي تميل إليه الدكتورة بنت الشاطىء :
« والذي نكمئن إليه ، هو أن تحدث الأرض على الإسناد المجازي ، فيه تقرير لفاعلية تستغني بها عن فاعل ، وتأكيد للظاهرة الأسلوبية المضطردة في حرف النظر عمدا عن الفاعل الأصلي لأحداث البعث والقيامة. ثم لا يغيب عنا ما لهذا الصنيع البياني من قوة إثارة وإيحاء ، فنحن نشهد صورة فنية معبرة ، فنقول في إعجاب : إنها تكاد نتطق ، والبيان القرآني المعجز لا ينطق الجماد فحسب ، بل يجرد منه كذلك شخصية حية ، فاعلة ناطقة مريدة مدركة » (٣).
ب ـ إن ما سبق لنا القول فيه تؤكده أحداث القيامة ، من قول كما في قوله تعالى : (يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مّزيد (٣٠) ) (٤).
أو فعل وقوة كقوله تعالى : ( إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور (٧)
__________________
(١) الزلزلة : ٣.
(٢) الزمخشري : الكشاف : ٤ / ٢٧٦.
(٣) بنت الشاطىء ، التفسير البياني : ١/ ٩٢ وما بعدها.
(٤) ق : ٣٠.
١٠١
تكاد تميّز من الغيظ (٨) ... ) (١) ، أو شدة ناطقة فاعلة كقوله تعالى :
( يا أيها الناس أتّقوا ربّكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم (١) يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمّا أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد (٢) ... ) (٢) وليست جهنم كائنا متكلما فتقول ، وتستمع وتجيب ، وإن كان ذلك غير بعيد إعجازا.
وليست النار جسما مريدا وفاعلا فنستمع لشهيقها أو هي تفور ، أو تتميز من الغيظ.
وليس في القيامة إرضاع حتى تذهل المرضعة عن رضيعها ، وليس هنالك وضع وولادة وإنجاب ، حتى تضع كل ذلت حمل حملها.
إن التعبير بالمجاز بمعناه العام هو الذي صور هذه الأحداث بهذه الصور المثيرة ، وأبانها بهذه الهيأة الناطقة ، وسيّرها بهذه الإرادة التامة تنبيها للضمائر ، وتوجيها للعقول ، وتأثيرا على النفوس حتى تستعد لذلك اليوم الذي تنطق فيه جهنم ، وتفور فيه النار حتى يسمع شهيقها ، وحتى لتكاد تتقد من الغيظ وتنشق ، ذلك اليوم الذي لو أرضعت فيه المرضعة لذهلب عن رضيعها ، ولو توافرت فيه ذوات الأحمال لوضع أحمالها.
إذن هذه خصائص نفسية يحملها المجاز القرآني ونحتضنها تعبيره الفريد من أجل الإنسان. دربة منه على الحذر والاستعداد والتهيؤ التام.
جـ ـ وما يقال في ملحظ النطق والقول والقوة بالنسبة للنار يقال عينه بالنسبة للإيحاء الى الأرض في قوله تعالى : ( بأنّ ربّك أوحى لها (٥) ) (٣).
والقضية تصور في مدرك عقلي محض ، فالوحي الإلهي هو الفعل الذي يكشف به الله للإنسان عن الحقائق التي تجاوز نطاق عقله (٤).
__________________
(١) الملك : ٧ ـ ٨.
(٢) الحج : ١ ـ ٢.
(٣) الزلزلة : ٥.
(٤) ظ : د. جميل صليبا ، المعجم الفلسفي : ٢/٥٧٠.
١٠٢
وإذا كان الوحي فعلا متميزا ، فهو صادر عن فاعل مريد ، وهذا الفاعل المريد هو الله تعالى ، الى متلق ممتثل ، فتعلقه في الأرض إذن تعلّق مجازي ، إذ طريق الوحي هو التلقي ، والأرض غير قابلة للتلقي. لهذا فالإيحاء في الآية عند الزمخشري مجاز لا يستثني بهذا شيئا قال :
« أوحى لها بمعنى أوحى إليها ، وهو مجاز كقوله تعالى : ( أن نقول له كن فيكون ) وكقول الشاعر : أوحى لها القرار فاستقرت (١).
وأصل الوحي هو : الإشارة السريعة على سبيل الرمز والتعريض وما مجرى الإيماء والتنبيه على الشيء من غير أن يفصح به (٢).
وقد يكون أصل الوحي في اللغة كلها الإعلام في خفاء (٣). ومؤدى ذلك واحد ، إذ الإشارة السريعة إعلام عن طريق الرمز ، والرمز إيماء يستفيد منه المتلقي أمرا إعلاميا قد يخفى على الآخرين (٤).
ولهذا فقد كان الراغب دقيقا حينما عرض لمصطلح الوحي وقسمه فيما تنبه اليه بين القابل له والمستعصي عليه ، إلا أن يكون ذلك تسخيرا من قبل الله تعالى ، فقال : « فإن كان الموحى إليه حيا فهو إلهام ، وإن كان جمادا فهو تسخير » (٥).
لهذا فقد ذهب الطبرسي ( ت : ٥٤٨ هـ ) الى أن أوحى لها : أي ألهمها وعرفها بأن تحدث أخبارها .. من جهة تخفى (٦).
والسياق إنما يقوم على قوة هذه الفاعلية في تصوير هول الموقف الذي يدهش له الإنسان فيقول في عجب وقلق ما لها؟ فاقتضى أن يأتيه
__________________
(١) ظ : الزمخشري ، الكشاف : ٤/٢٧٦.
(٢) قارن بين ذلك في : الراغب ، المفردات : ٥١٥. الطبرسي ، مجمع البيان : ٥/٣٧.
(٣) ظ : ابن منظور ، لسان العرب ٢٠/٢٥٨.
(٤) ظ : المؤلف ، ظاهرة الوحي والمستشرقون. « بحث » في كتاب : ( المستشرقون وموقفهم من التراث العربي الإسلامي ) وقائع المؤتمر العلمي الأول لكلية الفقه : مطبعة القضاء ، النجف ، ١٩٨٦ م.
(٥) الراغب ، المفردات : ٥١٥.
(٦) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : ٥/٥٢٦.
١٠٣
الجواب ( بأنّ ربّك اوحى لها (٥) )(١).
تحدث به الأرض نفسها تلقائيا ؛ فالإيحاء هنا مباشرة ، ليلائم إسناد التحدث الى الأرض. وسر قوته في أنه كذلك(٢).
٣ ـ ومسايرة المجاز للنفس الإنسانية لا تقف عند حد معين ، ولا تختص بأقوام دون آخرين ، فالعبرة فيها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ومع هذا فقد نلتقط بعض الشذرات النادرة ، والتحف الثمينة في هذه الظاهرة المتأصلة ، ومن ذلك ما أورده تعالى في سورة الضحى من أقسام وأيمان كان للمجاز العقلي فيها نصيب متميز ، كما في قوله تعالى : ( والضّحى (١) والليل إذا سجى (٢) )(٣).
وسيأتي إبراز المجاز الإسنادي الحكمي لهذه الآية في محلها من فصل « المجاز العقلي في القرآن » والمهم هنا أن نبين أن القرآن العظيم كما توجه لإثارة النفس عند الناس ، فكذلك توجه لتهدئة النفس الإنسانية عند ذي أقدس نفس بشرية ، وهو الرسول الأعظم محمد 6 ، وبذلك يستوعب المجاز القرآني ، النفوس الاعتيادية والنفوس المقدسة الشريفة ، وقد تنبهت الدكتورة بنت الشاطىء لهذا الملحظ ونحن نؤيدها فيه بحدود.
« المقسم به في آيتي الضحى ، صورة مادية ، وواقع حسي ، يشهد به الناس تألق الضوء في ضحوة النهار ، ثم يشهدون من بعده فتور الليل إذا سجا وسكن. يشهدون الحالين معا ، في اليوم الواحد ، دون أن يختل نظام الكون ، أو يكون في توارد الحالين عليه مما يبعث على إنكار ، بل دون أن يخطر على بال أحد ، إن السماء قد تخلت عن الأرض وأسلمتها الى الظلمة الموحشة ، بعد تألق الضوء في ضحى النهار ».
فأي عجب في أن يجيء ، بعد أنس الوحي وتجلي نوره على المصطفى 6 ، فترة سكون يفتر فيها الوحي ، على نحو ما نشهد من الليل الساجي يأتي بعد الضحى المتألق (٤).
__________________
(١) الزلزلة : ٥.
(٢) ظ : بنت الشاطىء ، التفسير البياني : ١/٩٧.
(٣) الضحى : ١ ـ ٢.
(٤) بنت الشاطىء ، التفسير البياني : ١/٢٦.
١٠٤
منقول عن:مجاز القرآن خصائصه الفنيّة وبلاغته العربيّة
للدكتور محمد حسين علي الصّغير
مواضيع مماثلة
» المجاز العقلي و المجاز المرسل
» خصائص و مميزات أساليب الأدباء المقررين
» خصائص شعر الطبيعة
» المجاز بأنواعه الثلاثة
» وجوه المجاز العقلي
» خصائص و مميزات أساليب الأدباء المقررين
» خصائص شعر الطبيعة
» المجاز بأنواعه الثلاثة
» وجوه المجاز العقلي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأحد يناير 04, 2015 10:48 pm من طرف سهام الجزائرية
» في مفهوم تعليمية المادة
الأحد يناير 04, 2015 10:05 pm من طرف سهام الجزائرية
» التدريس فنياته و آلياته
الثلاثاء ديسمبر 23, 2014 12:04 am من طرف myahia
» التكوين : مفهومه ، أهدافه ، آلياته
الإثنين ديسمبر 22, 2014 11:39 pm من طرف myahia
» عذرا فلسطين
الجمعة مارس 14, 2014 8:05 pm من طرف سهام الجزائرية
» ملتقى ولائي 10 مارس 2014
الأربعاء مارس 12, 2014 11:00 pm من طرف myahia
» ما أجمل اللغة العربية
الأربعاء فبراير 19, 2014 8:46 pm من طرف سهام الجزائرية
» و جادلهم بالتي هي أحسن
الثلاثاء فبراير 18, 2014 3:15 pm من طرف سهام الجزائرية
» قصة و عبرة
الجمعة فبراير 14, 2014 1:32 am من طرف myahia