بحـث
المواضيع الأخيرة
سحابة الكلمات الدلالية
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 34 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 34 زائر لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 171 بتاريخ الثلاثاء يونيو 12, 2018 11:35 am
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
ابن الأبار (595هـ - 658هـ)/ بقلم : الباحث
:: اللغة العربية :: ابداعات
صفحة 1 من اصل 1
ابن الأبار (595هـ - 658هـ)/ بقلم : الباحث
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله خالق الخلق ومُعدِمه، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وأكرَمه، المنعوت بأحسن الخُلُق وأعظَمه، محمد نبيه وخليله وصفيه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه .
أما بعد : فإن التراث الأدبي الأندلسي زاخر بالشخصيات والأعلام الذين تركوا بصماتهم واضحة على ملامحه، وشهدت لهم أقلام معاصريهم وألسنتهم بالتقدم وحيازة قصب السبق، وأكد ما وصل من آثارهم المنثورة والمنظومة صحة ما نقل عنهم، وصدق ما نسب إليهم . والحافظ الأديب أبو عبد الله ابن الأبار من مقدمي تلك الجماعة، وأحد المبرزين في الصناعة، وتسليط الأضواء على بعض جوانب حياته، والتعرف على جزء من تراثه، أمر لا ينبغي إهماله لمن رام دراسة الأدب الأندلسي وكشف خصائصه ومميزاته.
وهذا البحث الذي نُقدِّم له، الغرض منه إلقاء نظرة عجلى على حياة هذا الأديب الأريب، وشيء من جهوده وإسهاماته في رحاب الأدب الأندلسي الفسيح، والمتعدد المناحي والجوانب.
نسبه ومولده
* هو : العلامة البليغ، الكاتب المنشىء، الحافظ المؤرخ، المقرئ المجود، الناظم الناثر، المؤلف البارع أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أحمد القضاعي الأندلسي البلنسي، ويقال له الأبار وابن الأبار ( ) .
وقد عرف بهذا اللقب -نعني: ابن الأبار- جماعة من الأندلسيين فضلا عن غيرهم، لكن المشهورين في باب الشعر والأدب رجلان المُترجَم وأبو جعفر بن محمد ابن الأبار الخولاني الإشبيلي، إلا أن هذا توفي سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة ( ) .
* ولد ببلنسية - وهي من حواضر الأندلس العظيمة، الواقعة شرق الأندلس مُطلةً على البحر المتوسط- ، آخر شهر ربيع سنة خمس وتسعين وخمس مئة هجرية، في السنة التي بويع فيها للخليفة الموحدي الرابع أبي عبد الله محمد بن يعقوب، وقد كانت الأندلس وقتها تابعة للعرش الموحدي، مقسمة ولايتها بين ولاتهم الذين هم من أقاربهم، وكانوا يسمونهم السادة.
نشأته العلمية وشيوخه
نشأ في بيت علم وصلاح؛ فسمع من أبيه الإمام أبي محمد الأبار ، وكان والده ومعلمه الأول عالماً بالقراءات مقبلاً على أمور الخير كثير التعبد وتلاوة القرآن الكريم حافظاً للمسائل، آخذاً فيما يُستحسن من الأدب، ذا حظوة لدى السلطان .
تلى ابن الأبار على أبيه القرآن بقراءة نافع مراراً، وسمع منه أخباراً وأشعاراً، واستظهر عليه أيام أخذه عن الشيوخ كثيراً، ليمتحن بذلك حفظه. ولما حضرت والده الوفاة كان غائباً بثغر بطليوس، وكان ذلك ببلنسية ظهر يوم الثلاثاء الخامس لشهر ربيع الأول سنة 619 هجرية.
كان لابن الأبار شيوخ كثر؛ منهم : القاضي أبو عبد الله بن نوح الغافقي وأبو الخطاب بن واجب وأبو داود سليمان بن حَوط الله وأبو عبد الله بن سعادة وحسين بن زلال وأبو عبد الله ابن اليتيم، والحافظ أبو الربيع بن سالم، ولازمه وتخرَّج به .
وارتحل في مدائن الأندلس وكتب العالي والنازل، وقرأ القراءات، وعني بالأثر، وبرع في البلاغة والنظم، وكان أحد أئمة الدنيا علما وفهما في مقتبل العمر .
في بلاط أمراء بلنسية
* بلغ صيته بلاط والي بلنسية السيد أبو عبد الله ابن أبي حفص، فاتخذه كاتبا، ثم كتب عن ابنه السيد أبي زيد عبد الرحمن ( ) . وبعد وقعة العقاب سنة تسع وستمائة في زمن الخليفة الناصر الموحدي ، ضعف أمر المغرب والأندلس، ولم يكد عبد الواحد ابن أبي يعقوب بن عبد المؤمن يجلس على عرش المغرب بعد موت أبي يعقوب الثاني سنة 620هـ ( ) ؛ حتى استقلَّ السادة بنواحي الأندلس كُلٌّ في عمله، وضعف ملكهم بمراكش، فصاروا إلى الاستعانة بأمراء النصارى بعضهم على بعض، وإسلام حصون المسلمين إليهم في ذلك، فمشت رجالات الأندلس وأعقاب العرب منذ الدولة الأموية وأجمعوا على إخراجهم فثاروا بهم لحين واحد .
وفي سنة 629هـ قام الأمير زيان بن أبي الحملات ابن مردنيش قائد الأعنة المشار إليه في الدفاع عن بلنسية بإخراج السيد أبي زيد الذي من بلنسية وملكها، وفَرَّ السيد إلى النصارى وارتد إلى دينهم، وصار ابن الأبار كاتبا لابن مردنيش ( ) .
ولم يزل أمر بلنسية يضعف باستيلاء العدو على أعمالها إلى أن حصرها ملك برشلونة النصراني؛ فاستغاث الأمير زيان بن مردنيش بصاحب إفريقية السلطان أبي زكريا يحيى ابن عبد الواحد بن أبي حفص، وبعث إليه بالبيعة مع وفد أهل بلنسية يتقدمهم كاتبه أبو عبد الله ابن الأبار، فلما دخل على السلطان الحفصي قام بين يديه منشدا قصيدته السينية التي مطلعها :
أدرك بـخـيلـك خـيـلِ الله أندلســا إن الـسـبـيـل إلــى مـنجاتها درسـا
وكان لهذه القصيدة المبكية أثرها في نفس السلطان الحفصي، فبادر إلى نجدة البلدة المحاصرة، وأسرع بتجهيز 12 سفينة حربية محملة بالمؤن والسلاح، وعهد بقيادة هذه النجدة إلى ابن عمه أبي زكريا يحيى بن أبي يحيى الشهيد، وأقلعت هذه السفن على جناح السرعة إلى المحاصرين لنجدتهم، لكنها لم تتمكن من إيصال هذه النجدة إلى أهلها، نظرا للحصار الشديد المفروض على بلنسية من جهة البحر، وانتهى الأمر بأن أفرغت السفن شحنتها في ثغر دانيه الذي يقع بعيدا عن بلنسية المحاصرة، وهكذا فشلت محاولة إنقاذ المدينة وإمدادها بما يقويها على الصمود.
وفي الوقت الذي كان فيه أهالي بلنسية يعانون الضيق والحصار ولا يجدون من يمد لهم يد النجدة، كانت تنهال عليهم الضربات من كل جانب، لكنهم كانوا عازمين على المقاومة والدفاع، فكانوا يخرجون لمقاتلة النصارى في شجاعة وبسالة، واستمر الحصار على هذا النحو زهاء 5 أشهر، والبلنسيون يضربون أروع الأمثلة في الثبات والمقاومة، لكن ذلك لم يكن ليستمر بدون إمداد وعون، وشعر المسلمون في المدينة بحرج موقفهم بعد أن فنيت الأقوات وتأثرت أسوار المدينة وأبراجها؛ فأبرموا صلحا مع المك الإسباني، الذي دخلها يوم الثلاثاء السابع عشر لصفر من سنة ست وثلاثين وستمائة ( ) .
في بلاط السلاطين الحفصيين
* لما كان من أمر بلنسية ما كان، رجع ابن الأبار بأهله إلى تونس، غبطة بإقبال السلطان عليه؛ فنزل منه بخير مكان ورشحه لكتب علامته في صدور مكاتباته، فكتبها مدة. ثم أراد السلطان صرفها لأبي العباس الغساني لكونه يحسن كتابتها، فكتبها مدة بالخط المشرقي وكان آثر عند السلطان من المغربي، فسخط ابن الأبار أنفة من إيثار غيره عليه، وافتات على السلطان في وضعها في كتاب أمر بإنشائه لقصور الترسيل يومئذ في الحضرة عليه، وأن يبقى موضع العلامة -وهي ختم الرسالة بخاتم نقشت فيه علامة خاصة يؤمن معه من فتحه والاطلاع على ما فيها- منه لكاتبها، فجاهر بالرد ووضعها استبدادا وأنفة، وعوتب على ذلك، فاستشاط غضبا، ورمى بالقلم وأنشد متمثلا :
اطلب العز فـي لـظــى وذر الــذل ولــو كــان في جنـان الــــخلــود
فنُمي ذلك إلى السلطان، فأمر بلزومه بيته، ثم استعتب السلطان بتأليف رفعه إليه عَدَّ فيه من عوتب من الكتاب وأُعتِب، وسمَّاه «إعتاب الكُتاب» واستشفع فيه بابنه المستنصر بالله، فغفر السلطان له وأقال عثرته، وأعاده إلى الكتابة ( ) .
ولما مات السلطان المذكور، حدثت بموته فتنة واختلاف، ثم استقرت الدولة لابنه أمير المؤمنين المستنصر بالله أبي عبد الله محمد بن أبي زكريا، وكان هذا السلطان أول من تلقب من الحفصيين بألقاب الخلافة، وانتهى أمره إلى أن بويع له بمكة وبُعث بالبيعة إليه ( ) ، فاستدعى ابن الأبار ورفعه إلى حضور مجلسه، فكان مع الطبقة الذين يحضرونه من أهل الأندلس وتونس .
في منفاه ببجاية
* كان في ابن الأبار أنفة وضيق خلق، وكان يزري على المستنصر بالله في مباحثه، ويستقصر مداركه، فخشن له صدره، مع ما كان يُسخِط به السلطان من تفضيل الأندلس وولاتها على تونس. وقد كان للوزير الأديب ابن أبي الحسين فيه سعاية لحقد قديم، سببه أن ابن الأبار لما وصل مع الأسطول البلنسي إلى مدينة بنزرت لغرض لقاء السلطان أول مرة، أرسل بغرض الرسالة التي بعث بها إلى الوزير الرئيس محمد بن الحسين ليستأذن له على السلطان، ووصف أباه في عنوان مكتوبه بالمرحوم، ونُبِّه على ذلك فاستضحك، وقال: «إن أبا لا تعرف حياته من موته لأبٌ خاملٌ»، ونُمِيت إلى الوزير بن الحسين فأسرَّها في نفسه وحقد عليه . وكانت ثمرة السعاية مع ما اجتمع من ابن الأبار في حق السلطان أن أصدر الأمر بنفيه إلى بجاية، فارتحل إليها وبقي عاطلا من الرُّتَب، فاشتغل بالتصنيف في فنون العلم والأدب ( ) .
محنته ومقتله
* أحس السلطان بالفراغ الذي كان تركه ابن الأبار، فرضي عنه واستقدمه، وأرجعه إلى مكانه من المجلس، إلا أن أخلاقه لم تعنه على الوفاء بأسباب الخدمة، فقلصت عنه تلك النعمة، وعاد إلى مساءة السلطان بنزعاته، ثم إنه جرت أمور أوغرت صدر السلطان عليه، وأفضت إلى قتله، وأهمها شيئان :
الأول : أنه ألف تاريخا وتكلم في جماعة، فقام عليه أعداؤه، وأوغروا السلطان عليه، وقالوا : «هو فضولي يتكلم في الكبار» .
والثاني : أنه جرى في بعض الأيام ذكر السلطان مولده ابنه الواثق بالله يحيى، فسائل عنه بعض من حضره فاستبهم، فغدا عليه ابن الأبار بتاريخ الولادة وطالِعها، فاتُّهِم بتوقُّع المكروه للدولة والتَّربُّص بها، كما كان أعداؤه يشيعون عنه ، بما كان ينظر في النجوم؛ وتنسب إليه ملحمة مضمنة في قصيدة بائية اشتهرت بأرض المغرب في حدثان الدولة الحفصية ومآل أمرها ؛ ومن أبياتها :
فــإمَّــا رأيـت الـرســوم امَّـحــت ولـم يُـرع حــق لـــذي مــنــصب
فـخــذ فـي الـتـرحــل عــن تونُسَ ووَدِّع مــعــالـمــهــا واذهــــــب
فســـوف تـكــون بــهـــا فـتـنـــة تُـضـيــف الـبـريء إلـى الـمــذنب
يقول ابن خلدون : «وقال لي قاضي قسنطينة الخطيب الكبير أبو علي بن باديس، وكان بصيرا بما يقوله، وله قَدَمٌ في التنجيم؛ فقال لي: إن هذا ابن الأبار ليس هو الحافظ الأندلسي الكاتب مقتول المستنصر، وإنما هو رجل خياط من أهل تونس تواطأت شهرته مع شهرة الحافظ» ( ) .
باجتماع كل ما ذكر تقبض السلطان، وبعث إلى دار ابن الأبار، فرُفِعت إليه كتبه أجمع، وأُلفِي أثناءها فيما زعموا رقعة بأبيات أولها :
طــغــى بـتــونــس خَــلـــــــف سَـمَّـــوه ظـلــمــا خــلـيــفــــه
فاستشاط السلطان لها، وأمر بامتحانه، ثم أخذ، فلما أحسَّ بالتَّلف قال لغلامه: خذ البغلة لك، وامض حيث شئت، فلما أدخل أمر الملك بقتله، فقتل ظلما وعدوانا قعصًا بالرماح ضحوة يوم الثلاثاء الموفي عشرين لمحرم سنة 658هـ ثم أُحرِق شِلوُه، وسيقت مجلدات كتبه وأوراق سماعه ودواوينه فأحرقت معه، وله ثلاث وستون سنة، رحمه الله ( ) .
آثاره العلمية والأدبية
* كان الحافظ ابن الأبار متفننا متقدما في الحديث والآداب، متخلقا فاضلا، بصيرا بالرجال المتأخرين، مؤرخا حلو التَّتَرجُم، فصيح العبارة، وافر الحِشمة، ظاهر التجمل من بلغاء الكتبة.
وقد ظهر ذلك جليا في تواليفه المتنوعة في الحديث والتاريخ والأدب وقد أحرق بعضها كما تقدَّم؛ فمن كتبه : كتاب «تكلمة الصلة»، وكتاب «قطع الرياض» جمع فيه أشعارا تخيرها، وكتاب «هداية المعترف في المؤتلف والمختلف»، وكتاب «تحفة القادم في شعر الأندلس»، وكتاب «التاريخ»، وكتاب «معجم أصحاب الصدفي»، وكتاب «الحلة السيراء في أشعار الأمراء»، وكتاب «الأربعين المتباينات»، وكتاب «درر السمط في خبر السبط»، وكتاب «إفادة الوفادة».
شعره
* ابن الأبار شاعر متفنن نظم في الأغراض جميعها، وشعره راق رائق يتسم بالبراعة والعذوبة والعفة والوفاء للوطن، وغرر قصائده ثلاثٌ ؛ ميميته التي رثى بها شيخه الكلاعي ، وسينيته الفريدة التي استصرخ بها السلطان الحفصي، وهمزيته التي استنهض بها همة السلطان نفسه لاسترجاع الأندلس ؛ وكل تلك القصائد نظمها ابن الأبار بعد سقوط بلنسية.
أما الأولى ؛ فقد رثى فيها شيخه الحافظ أبا الربيع الكلاعي رحمه الله تعالى الذي قتلته الفِرِنجة في وقعة أنيجة لعشر بقين من ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وستمائة، وهي قصيدة على روي الميم شهيرة طويلة أولها ( ) :
ألِـمَّا بـأشــلاء الـعُـلا والـمَــكارِم تُـقَـدُّ بـأطـراف الـقَنــا والـصَّوارم
وعُـوجا( ) عليهـــا مَأرِبا وحفـاوة مصارع خُصَّت بالطُّلى( )والجماجم
نُحَيـي وجــــوها في الجنان وَجيهةً بـمــا لـقـيت حُمرا وجــوه الملاحم
وأجـساد إيـمــان كساها نجيعها( ) مجــاسد من نسج الظبى واللهاذم( )
وأما الثانية : فيقول في حقها ابن سعيد في «القدح المعلى» : «عارضه جمع من الشعراء ما بين مخطئ ومحروم، وأغري الناس بحفظها إغراء بني تغلب بقصيدة عمرو بن كلثوم» ( ) . وقد هزت هذه القصيدة من الملك عطف ارتياح، وحركت من جنانه أخفض جناح، ولشغفه بها وحسن موقعها منه، أمر شعراء حضرته بمجاوبتها فجاوبها غير واحد، لكنها فضحت من باراها وكبا دونها من جاراها. يقول الغبريني في «عنوان الدراية» : «لو لم يكن له من الشعر إلا قصيدته السينية التي رفعها للأمير أبي زكريا رحمه الله تعالى يستنجده ويستصرخه لنصرة الأندلس لكان فيه كفاية، وإن كان قد نقدها ناقد وطعن عليه فيها طاعن، ولكن كما قال أبو العلاء المعري :
تـكـلـم بـالقـول الـمُـــضَلَّلِ حاسدٌ وكــل كــلام الحـاسـديــن هُــراء )
وسينية ابن الأبار طويلة في قريب من سبعين بيتا ؛ نكتفي بذكر بعضها ( ) :
أدرك بـخـيلـك خـيـلِ الله أندلســا إن الـسـبـيـل إلــى مـنجاتها دَرَسـا
وهَب لها من عزيزِ النصر ما التمَست فلم يزل منك عِزُّ النـصـر مُـلتَمسَــا
يـا للـجزيـرة أضحى أهـلها جُــزُرا لـلـحـادثـات وأمسى جَـدُّهَا تَعِســا
فـي كـل شـارقـة إلـمـام بـائـقــــةٍ يـعــود مـأتـمـهــا عند العِدا عُرُسا
وفــي بـلـنـسـيـة مـنـهـا وقرطبــة ما ينسف النفس أو ما ينزف النفسـا
مـدائـن حـلهـــا الإشــراك مبتسما جَــذلان وارتـحـل الإيـمـان مبتئسا
وصيَّـرتها الـعـوادي الـعــائثات بها يستوحش الطرف منها ضِعف ما أنِسا
يــا لَـلـمَسـاجـــد عَادت للعِدا بيَعًا ولَلـنِّــداء غــدَا أثـنــاءهــا جَرَســا
وأما الثالثة : فظلت مجهولة النسب لأكثر من سبعة قرون حتى اكتشاف ديوان ابن الأبار ( ) ، وقد بلغت هذه القصيدة تسعين بيتاً ، ومطلعها :
نـادتــك أنـدلس فـلـبِّ نـــــداءها واجـعــل طواغيت الصليب فداءها
واشــــدد بجَلْبِكَ جُرْد خيلك أزرها تــردُدْ عـلــى أعـقـابهـا أرزاءهـــا
* وإلى جانب تلك الغرر ، لابن الأبار شعر رائق ؛ نورد مقتطفات منه
فمن ذلك قوله يشكو حنينه إلى بلنسية :
تـراءى لــه أُفــق الـبـحيـرة والبحـر فــراح بـمــاء الـقلب مختضب النَّحر
وقد منع التـهـويم( ) أني هائم بعيش مـضـى بـيـن الـرُّصـافــة والـجــسر
وجـنـةِ دنـيــا لا نـظـيــر لـحــسنها تـفـجــرت الأنـهــار من تحتها تجري
إذا الـنــاس حـنــــوا للربيع وجدتنا بـهـا فـي ربـيــعٍ كُلَّ حينٍ من الدهـر
ومن شعره في حديقة ( ) :
حـديــقـــة يـاســــــــمــيــنَ لا تـهـيـــم بـغـيـرهـــا الـحَـدَق( )
إذا جَــفــن الــغــمـــــام بـكــى تــبــســم ثـغــرهـــا الـيَـــقَق( )
كـأطــــراف الأهـلـــة ســـــــال فـــي أثـنــائـهــــا الـشــفــــــق
ومن شعره في خسوف القمر ( ) :
عـجـبـت مـن الخـســــوف وكيف أودى بـبـدر الـتَّــمِّ لَـمَّـــاع الضياء
كـمـرآة جـلاَّهـا الـصـقـــل حـتـى أنــارت ثـم رُدَّت فــي غــشـــــاء
وقوله في دولاب ( ) :
يـا حـبَّــذا بـحــديـقــــــة دولاب سـكـنــت إلـى حـركـــاته الألباب
غَـنَّـى ولـم يـطـــرب وسقــى وهو لـم يـشــرب ومنـه العود والأكواب
لـو يـدعـي لـطــف الهـواء أو الهوى مـا كـنـت فـي تـصـديـقــــه أرتاب
وكــأنــه مـمــا شـــدا مــــستهزئ وكــأنـــه مـمــا بــكى نـــــــدَّاب
وكــأنـــه بــنـثـــاره ومـــــــداره فــلـــك كــواكــبـــه لـهــا أذناب
وله في الغزل ( ) :
مـن عَــاذِري مــن بَـابـلَـي طـرفـــه ولَـعـمــرِه مـا حـل يـومـا بـابـــــلا
أُعـتِـده خُوطًا( ) لعيشي نـاعـمــــا فيعود خَـطِّـيًّــا( ) لـقـتـلـي ذابـــلا
وقوله يمدح السلطان الحفصي أبا زكريا ( ) :
تـحـلَّت بـعـليــاك الليالي العـواطـل ودانـت لـسـقـيـاك الـسحاب الهواطل
ومـا زيـنــة الأيــام إلا مـنـــاقــــب يـفـرعــهــا أصــلان بـــأس ونــائل
إذ الطَّــول والصَّـول استـقـلا بــراحة تـرقـت لـهــا نـحــو الـنـجوم أنامل
وله يرغب عن الكتابة ( ) :
ألا اسـمـع فـي الأمـيـــر مقال صِدقٍ وخـذه عـن امـرىء خَــدَم الأمـيـــرا
مـتـى تـكـتـب تَــرِد وَشَــــلا أجاجا وإن تـركــب تَــــرد عـذبــــا نمـيـرا
ومن شعره في الجناب النبوي ( ) :
لــو عَــنَّ لــي عــون مــــن المقدار لـهـجــرت لـلــدار الكريــمة داري
وحـلــلــت أطـيـبَ طِـيـبَةٍ من طيبةَ جـارا لـمــن أوصــى بـحــفظ الجار
يــا زائـريــن الـقـبــر قـبــر مـحمد بـشـرى لـكــم بـالـسـبــق في الزوار
أوضـعـتـم لـنـجـاتـكــم فــوضعتم مــا آذاكــم مـن فـــــــادح الأوزار
فــوزوا بـسـبـقــكــم وفوهوا بالذي حـمــلـتـم شـوقـا إلـى الـمــــختار
أدوا الـســلام سَـلِـمـتـــم وبــــرَدِّه أرجــو الإجـــارة مــن ورود النــار
ومن شعره في الافتقار إلى الله ( ) :
رجـوت الله فـي الــلأواء لـمـــــــا بـلــوت الـنــاس مــن سـاه ولاهي
فـمــن يــك سـائــــلا عنـــي فإني غـنـيــت بـالافـتـقــار إلــى إلـهـي
وله في انتظارالفرج ( ) :
يــا شـقـيــق الـنــفس أوصيك وإن شـق فـي الإخــلاص مــا تـنـتـهجه
لا تـبـت فـي كـمــد مــن كــبــــد رب ضـيـق عــاد رحـبـــا مـخـرجه
وبـلـطــف الله أصـبــح واثــقـــــا كـل كــرب فـعـلـيـــه فـــرجــــه
نماذج من نثره
* برع ابن الأبار كغيره من الأدباء الأندلسيين في النثر كما برع في الشعر، وليس هذا غريباً على من تبحر في علوم اللسان نحواً ولغة وأدباً، فهو كاتب بليغ حسن الخط جيد الضبط، رشح لكتابة العلامة وهي من أعلى المناصب في مجال الكتابة الملوكية .
لقد نقلت لنا كتب التراجم والأدب رسائل كثيرة لابن الأبار تضمنت نثراً بديعاً على اختلاف أنواعها وأسباب كتابتها، فبعضها موجه إلى أصحابه وأقرانه من الكتاب والأدباء، وبعضها شفاعات لإطلاق مساجين أو مساعدة محتاجين، أو تنصيب بعض العمال على ولايات معينة، ويطول بنا المقام لاستعراض تلك الرسائل؛ وحسبنا في مقامنا هذا أن ننبه على بعض تلك النثريات :
فمن ذلك رسالة كتب بها في تنصيب بعض العمال وهو : «عن إذن فلان يتقدم فلان للنظر في الأشغال المخزنية بفلانة، مُوَفيا ما يجب عليه من الإجتهاد والتشمير، والجد الذي ارتسم في الإنماء والتثمير، مصدقا ما قدر فيه من الانتهاض والاستقلال، وقرر عنه من الأمانة التي رشحته وأهلته لأنبه الأعمال؛ جاريا في ضبط الأمور المخزنية والرفق بجانب الرعية، على المقاصد الجليلة والمذاهب المرضية، في عامة الشؤون والأحوال، عاملا بما تقدمت به الوصية إليه، وتأكدت الإشارة به عليه، من تقوى الله في السر والعلن، عالما أن المرء بما قدمته يداه مُرتَهَن» ( ) .
ومنه نثره أيضا رسالة بعث بها إلى صديقه الكاتب القاضي أبي المطرف ابن عميرة المخزومي يسأله عن بلنسية وأحوالها بعد احتلال الإسبان لها ؛ ومما قال فيها: «...الحديث عن القديم شجون، والشأن بتقاضي الغريم شؤون، فلا غرو أن أطارحه إياه، وأفاتحه الأمل في لقياه، ومن لي بمقالة مستقلة، أو إخالة غير مخلة، أبت البلاغة إلا عمادها، ومع ذلك فسأنبئ عمادها .
درجت اللِّدَات والأتراب، وخرجت الروم بنا إلى حيث الأعراب، أيام دفعنا لأعظم الأخطار، وفجعنا بالأوطان والأوطار، فإلامَ نداري بَرْحَ الألم؟ وحتامَ نساري النجم في الظلم؟ جمع أوصاب ما له من انفضاض، ومضض اغتراب شذ عن ابن مُضاض، فلو سمع الأول بهذا الحادث، ماضرب المثل بالحارث.
...وأما الأوطان المحبب عهدها بحكم الشباب، المشبب فيها بمحاسن الأحباب، فقد ودعنا معاهدها وداع الأبد، وأخنى عليها الذي أخنى على لُبَد، أسلمها الإسلام، وانتظمها الانتثار والاصطلام، حين وقعت أنْسُرُها الطائرة، وطلعت أنحُسُها الغائرة، فغلب على الجذل الحزن، وذهب مع المسكين السكَن:
كزعزعِ الريحِ صَكّ الدَّوح عاصفهــا فــلم يَدَع من جنًى فيهــا ولا غُصُنِ
واهًــا وواهًـــــا يموت الصبر بينهما موت المحامد بيـن الـبـخـل والـجُبُن
أين بلنسية ومغانيها، وأغاريد وُرْقِها وأغانيها؟ أين حُلَى رصافتها وجسرها، ومنزلا عطائها ونصرها؟ أين أفياؤها تندى غضارة، وذكاؤها تبدو من خُضارة؟ أين جداولها الطافحة وخمائلها؟ أين جنائنها النفّاحة وشمائلها؟» ( ) .
خاتمة
عاش ابن الأبار فترة عصيبة من حياة الأندلس وبلاد المغرب، وشاهد تهاوي مدن المسلمين وحصونهم وتخاذل أمرائهم، وقيام دولة الحفصيين وسقوط دولة الموحدين، وعاين من هول الصليبيين ما يندى له الجبين .
وما على كل ذلك، كان وفيا للأدب الذي أحبه وعشقه حتى الثمالة، وللعلم الذي قضى فيه زهرة شبابه، فخلف تراثا عظيما، وأتحف المدونة الشعرية العربية، والخزانة النثرية بما يدل على رسوخ قدمه في العلم، وبلوغه شأنا عظيما في النبوغ والفهم .
لقد كان بحق مثالا صادقا للأديب المنافح عن دينه وعقيدته، الحامل لحب وطنه في سويداء قلبه، المسخر لشعره ونثره دفاعا عن الحق والحقيقة، وهو مع غيره من رجالات الفكر والأدب في الأندلس يقرر حقيقة واقعة أن ذلك الإقليم كما أنه كان مستقلا عن المشرق في الجغرافيا، فإنه كان استقل إلى حد كبير في الإنتاج الأدبي والإبداع الفكري .
وختاما ؛ الرجاء معقود على أن يكون البحث قد وفى المقام بعض حقه، وصلى الله على نبينا محمد صفوته من خلقه، وعلى آله وصحبه .
قائمة المصادر والمراجع
0- أحمد بن علي القلقشندي: «مآثر الإنافة في معالم الخلافة» ، مطبعة حكومة الكويت، الكويت، ط.2، 1985، تح. عبد الستار أحمد فراج.
02- أحمد بن علي القلقشندي القلقشندي: «صبح الأعشى في صناعة الإنشا»، دار الفكر، سورية، ط.1، 1987، تح. يوسف علي طويل.
03- أحمد بن محمد ابن خلكان،«وفيات الأعيان» . دار الثقافة. بيروت. ط1. 1967. تحقيق : إحسان عباس.
04- أحمد بن محمد المقري: «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب»، دار صادر، لبنان، ط.1، 1968، تح. إحسان عباس.
05- عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، «المقدمة» . دار القلم. بيروت ط5،1981، تح. محمود يوسف زايد.
06- عبد الواحد المراكشي: «المعجب في تلخيص أخبار المغرب»، مطبعة الاستقامة، مصر، ط.1، 1981، تح. محمد سعيد ومحمد العلمي.
07- عبد الواحد المراكشي: «المغرب في حلى المغرب»، دار المعارف، ط.3، 1955، تح. شوقي ضيف.
08- محمد بن أحمد الذهبي، «سير أعلام النبلاء» . مؤسسـة الرسالـة. سوريا. ط9. 1997. تح. شعيب الأرناؤوط ومحمد العرقسوسي .
09- محمد عبد المنعم خفاجي، «الأدب الأندلسي/التطور والتجديد»، دار الجيل، لبنان، ط.1، 1992.
10- محمد بن أبي بكر الرازي: «مختار الصحاح»، مكتبة لبنان، لبنان،ط. 1،1987.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله خالق الخلق ومُعدِمه، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وأكرَمه، المنعوت بأحسن الخُلُق وأعظَمه، محمد نبيه وخليله وصفيه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه .
أما بعد : فإن التراث الأدبي الأندلسي زاخر بالشخصيات والأعلام الذين تركوا بصماتهم واضحة على ملامحه، وشهدت لهم أقلام معاصريهم وألسنتهم بالتقدم وحيازة قصب السبق، وأكد ما وصل من آثارهم المنثورة والمنظومة صحة ما نقل عنهم، وصدق ما نسب إليهم . والحافظ الأديب أبو عبد الله ابن الأبار من مقدمي تلك الجماعة، وأحد المبرزين في الصناعة، وتسليط الأضواء على بعض جوانب حياته، والتعرف على جزء من تراثه، أمر لا ينبغي إهماله لمن رام دراسة الأدب الأندلسي وكشف خصائصه ومميزاته.
وهذا البحث الذي نُقدِّم له، الغرض منه إلقاء نظرة عجلى على حياة هذا الأديب الأريب، وشيء من جهوده وإسهاماته في رحاب الأدب الأندلسي الفسيح، والمتعدد المناحي والجوانب.
نسبه ومولده
* هو : العلامة البليغ، الكاتب المنشىء، الحافظ المؤرخ، المقرئ المجود، الناظم الناثر، المؤلف البارع أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أحمد القضاعي الأندلسي البلنسي، ويقال له الأبار وابن الأبار ( ) .
وقد عرف بهذا اللقب -نعني: ابن الأبار- جماعة من الأندلسيين فضلا عن غيرهم، لكن المشهورين في باب الشعر والأدب رجلان المُترجَم وأبو جعفر بن محمد ابن الأبار الخولاني الإشبيلي، إلا أن هذا توفي سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة ( ) .
* ولد ببلنسية - وهي من حواضر الأندلس العظيمة، الواقعة شرق الأندلس مُطلةً على البحر المتوسط- ، آخر شهر ربيع سنة خمس وتسعين وخمس مئة هجرية، في السنة التي بويع فيها للخليفة الموحدي الرابع أبي عبد الله محمد بن يعقوب، وقد كانت الأندلس وقتها تابعة للعرش الموحدي، مقسمة ولايتها بين ولاتهم الذين هم من أقاربهم، وكانوا يسمونهم السادة.
نشأته العلمية وشيوخه
نشأ في بيت علم وصلاح؛ فسمع من أبيه الإمام أبي محمد الأبار ، وكان والده ومعلمه الأول عالماً بالقراءات مقبلاً على أمور الخير كثير التعبد وتلاوة القرآن الكريم حافظاً للمسائل، آخذاً فيما يُستحسن من الأدب، ذا حظوة لدى السلطان .
تلى ابن الأبار على أبيه القرآن بقراءة نافع مراراً، وسمع منه أخباراً وأشعاراً، واستظهر عليه أيام أخذه عن الشيوخ كثيراً، ليمتحن بذلك حفظه. ولما حضرت والده الوفاة كان غائباً بثغر بطليوس، وكان ذلك ببلنسية ظهر يوم الثلاثاء الخامس لشهر ربيع الأول سنة 619 هجرية.
كان لابن الأبار شيوخ كثر؛ منهم : القاضي أبو عبد الله بن نوح الغافقي وأبو الخطاب بن واجب وأبو داود سليمان بن حَوط الله وأبو عبد الله بن سعادة وحسين بن زلال وأبو عبد الله ابن اليتيم، والحافظ أبو الربيع بن سالم، ولازمه وتخرَّج به .
وارتحل في مدائن الأندلس وكتب العالي والنازل، وقرأ القراءات، وعني بالأثر، وبرع في البلاغة والنظم، وكان أحد أئمة الدنيا علما وفهما في مقتبل العمر .
في بلاط أمراء بلنسية
* بلغ صيته بلاط والي بلنسية السيد أبو عبد الله ابن أبي حفص، فاتخذه كاتبا، ثم كتب عن ابنه السيد أبي زيد عبد الرحمن ( ) . وبعد وقعة العقاب سنة تسع وستمائة في زمن الخليفة الناصر الموحدي ، ضعف أمر المغرب والأندلس، ولم يكد عبد الواحد ابن أبي يعقوب بن عبد المؤمن يجلس على عرش المغرب بعد موت أبي يعقوب الثاني سنة 620هـ ( ) ؛ حتى استقلَّ السادة بنواحي الأندلس كُلٌّ في عمله، وضعف ملكهم بمراكش، فصاروا إلى الاستعانة بأمراء النصارى بعضهم على بعض، وإسلام حصون المسلمين إليهم في ذلك، فمشت رجالات الأندلس وأعقاب العرب منذ الدولة الأموية وأجمعوا على إخراجهم فثاروا بهم لحين واحد .
وفي سنة 629هـ قام الأمير زيان بن أبي الحملات ابن مردنيش قائد الأعنة المشار إليه في الدفاع عن بلنسية بإخراج السيد أبي زيد الذي من بلنسية وملكها، وفَرَّ السيد إلى النصارى وارتد إلى دينهم، وصار ابن الأبار كاتبا لابن مردنيش ( ) .
ولم يزل أمر بلنسية يضعف باستيلاء العدو على أعمالها إلى أن حصرها ملك برشلونة النصراني؛ فاستغاث الأمير زيان بن مردنيش بصاحب إفريقية السلطان أبي زكريا يحيى ابن عبد الواحد بن أبي حفص، وبعث إليه بالبيعة مع وفد أهل بلنسية يتقدمهم كاتبه أبو عبد الله ابن الأبار، فلما دخل على السلطان الحفصي قام بين يديه منشدا قصيدته السينية التي مطلعها :
أدرك بـخـيلـك خـيـلِ الله أندلســا إن الـسـبـيـل إلــى مـنجاتها درسـا
وكان لهذه القصيدة المبكية أثرها في نفس السلطان الحفصي، فبادر إلى نجدة البلدة المحاصرة، وأسرع بتجهيز 12 سفينة حربية محملة بالمؤن والسلاح، وعهد بقيادة هذه النجدة إلى ابن عمه أبي زكريا يحيى بن أبي يحيى الشهيد، وأقلعت هذه السفن على جناح السرعة إلى المحاصرين لنجدتهم، لكنها لم تتمكن من إيصال هذه النجدة إلى أهلها، نظرا للحصار الشديد المفروض على بلنسية من جهة البحر، وانتهى الأمر بأن أفرغت السفن شحنتها في ثغر دانيه الذي يقع بعيدا عن بلنسية المحاصرة، وهكذا فشلت محاولة إنقاذ المدينة وإمدادها بما يقويها على الصمود.
وفي الوقت الذي كان فيه أهالي بلنسية يعانون الضيق والحصار ولا يجدون من يمد لهم يد النجدة، كانت تنهال عليهم الضربات من كل جانب، لكنهم كانوا عازمين على المقاومة والدفاع، فكانوا يخرجون لمقاتلة النصارى في شجاعة وبسالة، واستمر الحصار على هذا النحو زهاء 5 أشهر، والبلنسيون يضربون أروع الأمثلة في الثبات والمقاومة، لكن ذلك لم يكن ليستمر بدون إمداد وعون، وشعر المسلمون في المدينة بحرج موقفهم بعد أن فنيت الأقوات وتأثرت أسوار المدينة وأبراجها؛ فأبرموا صلحا مع المك الإسباني، الذي دخلها يوم الثلاثاء السابع عشر لصفر من سنة ست وثلاثين وستمائة ( ) .
في بلاط السلاطين الحفصيين
* لما كان من أمر بلنسية ما كان، رجع ابن الأبار بأهله إلى تونس، غبطة بإقبال السلطان عليه؛ فنزل منه بخير مكان ورشحه لكتب علامته في صدور مكاتباته، فكتبها مدة. ثم أراد السلطان صرفها لأبي العباس الغساني لكونه يحسن كتابتها، فكتبها مدة بالخط المشرقي وكان آثر عند السلطان من المغربي، فسخط ابن الأبار أنفة من إيثار غيره عليه، وافتات على السلطان في وضعها في كتاب أمر بإنشائه لقصور الترسيل يومئذ في الحضرة عليه، وأن يبقى موضع العلامة -وهي ختم الرسالة بخاتم نقشت فيه علامة خاصة يؤمن معه من فتحه والاطلاع على ما فيها- منه لكاتبها، فجاهر بالرد ووضعها استبدادا وأنفة، وعوتب على ذلك، فاستشاط غضبا، ورمى بالقلم وأنشد متمثلا :
اطلب العز فـي لـظــى وذر الــذل ولــو كــان في جنـان الــــخلــود
فنُمي ذلك إلى السلطان، فأمر بلزومه بيته، ثم استعتب السلطان بتأليف رفعه إليه عَدَّ فيه من عوتب من الكتاب وأُعتِب، وسمَّاه «إعتاب الكُتاب» واستشفع فيه بابنه المستنصر بالله، فغفر السلطان له وأقال عثرته، وأعاده إلى الكتابة ( ) .
ولما مات السلطان المذكور، حدثت بموته فتنة واختلاف، ثم استقرت الدولة لابنه أمير المؤمنين المستنصر بالله أبي عبد الله محمد بن أبي زكريا، وكان هذا السلطان أول من تلقب من الحفصيين بألقاب الخلافة، وانتهى أمره إلى أن بويع له بمكة وبُعث بالبيعة إليه ( ) ، فاستدعى ابن الأبار ورفعه إلى حضور مجلسه، فكان مع الطبقة الذين يحضرونه من أهل الأندلس وتونس .
في منفاه ببجاية
* كان في ابن الأبار أنفة وضيق خلق، وكان يزري على المستنصر بالله في مباحثه، ويستقصر مداركه، فخشن له صدره، مع ما كان يُسخِط به السلطان من تفضيل الأندلس وولاتها على تونس. وقد كان للوزير الأديب ابن أبي الحسين فيه سعاية لحقد قديم، سببه أن ابن الأبار لما وصل مع الأسطول البلنسي إلى مدينة بنزرت لغرض لقاء السلطان أول مرة، أرسل بغرض الرسالة التي بعث بها إلى الوزير الرئيس محمد بن الحسين ليستأذن له على السلطان، ووصف أباه في عنوان مكتوبه بالمرحوم، ونُبِّه على ذلك فاستضحك، وقال: «إن أبا لا تعرف حياته من موته لأبٌ خاملٌ»، ونُمِيت إلى الوزير بن الحسين فأسرَّها في نفسه وحقد عليه . وكانت ثمرة السعاية مع ما اجتمع من ابن الأبار في حق السلطان أن أصدر الأمر بنفيه إلى بجاية، فارتحل إليها وبقي عاطلا من الرُّتَب، فاشتغل بالتصنيف في فنون العلم والأدب ( ) .
محنته ومقتله
* أحس السلطان بالفراغ الذي كان تركه ابن الأبار، فرضي عنه واستقدمه، وأرجعه إلى مكانه من المجلس، إلا أن أخلاقه لم تعنه على الوفاء بأسباب الخدمة، فقلصت عنه تلك النعمة، وعاد إلى مساءة السلطان بنزعاته، ثم إنه جرت أمور أوغرت صدر السلطان عليه، وأفضت إلى قتله، وأهمها شيئان :
الأول : أنه ألف تاريخا وتكلم في جماعة، فقام عليه أعداؤه، وأوغروا السلطان عليه، وقالوا : «هو فضولي يتكلم في الكبار» .
والثاني : أنه جرى في بعض الأيام ذكر السلطان مولده ابنه الواثق بالله يحيى، فسائل عنه بعض من حضره فاستبهم، فغدا عليه ابن الأبار بتاريخ الولادة وطالِعها، فاتُّهِم بتوقُّع المكروه للدولة والتَّربُّص بها، كما كان أعداؤه يشيعون عنه ، بما كان ينظر في النجوم؛ وتنسب إليه ملحمة مضمنة في قصيدة بائية اشتهرت بأرض المغرب في حدثان الدولة الحفصية ومآل أمرها ؛ ومن أبياتها :
فــإمَّــا رأيـت الـرســوم امَّـحــت ولـم يُـرع حــق لـــذي مــنــصب
فـخــذ فـي الـتـرحــل عــن تونُسَ ووَدِّع مــعــالـمــهــا واذهــــــب
فســـوف تـكــون بــهـــا فـتـنـــة تُـضـيــف الـبـريء إلـى الـمــذنب
يقول ابن خلدون : «وقال لي قاضي قسنطينة الخطيب الكبير أبو علي بن باديس، وكان بصيرا بما يقوله، وله قَدَمٌ في التنجيم؛ فقال لي: إن هذا ابن الأبار ليس هو الحافظ الأندلسي الكاتب مقتول المستنصر، وإنما هو رجل خياط من أهل تونس تواطأت شهرته مع شهرة الحافظ» ( ) .
باجتماع كل ما ذكر تقبض السلطان، وبعث إلى دار ابن الأبار، فرُفِعت إليه كتبه أجمع، وأُلفِي أثناءها فيما زعموا رقعة بأبيات أولها :
طــغــى بـتــونــس خَــلـــــــف سَـمَّـــوه ظـلــمــا خــلـيــفــــه
فاستشاط السلطان لها، وأمر بامتحانه، ثم أخذ، فلما أحسَّ بالتَّلف قال لغلامه: خذ البغلة لك، وامض حيث شئت، فلما أدخل أمر الملك بقتله، فقتل ظلما وعدوانا قعصًا بالرماح ضحوة يوم الثلاثاء الموفي عشرين لمحرم سنة 658هـ ثم أُحرِق شِلوُه، وسيقت مجلدات كتبه وأوراق سماعه ودواوينه فأحرقت معه، وله ثلاث وستون سنة، رحمه الله ( ) .
آثاره العلمية والأدبية
* كان الحافظ ابن الأبار متفننا متقدما في الحديث والآداب، متخلقا فاضلا، بصيرا بالرجال المتأخرين، مؤرخا حلو التَّتَرجُم، فصيح العبارة، وافر الحِشمة، ظاهر التجمل من بلغاء الكتبة.
وقد ظهر ذلك جليا في تواليفه المتنوعة في الحديث والتاريخ والأدب وقد أحرق بعضها كما تقدَّم؛ فمن كتبه : كتاب «تكلمة الصلة»، وكتاب «قطع الرياض» جمع فيه أشعارا تخيرها، وكتاب «هداية المعترف في المؤتلف والمختلف»، وكتاب «تحفة القادم في شعر الأندلس»، وكتاب «التاريخ»، وكتاب «معجم أصحاب الصدفي»، وكتاب «الحلة السيراء في أشعار الأمراء»، وكتاب «الأربعين المتباينات»، وكتاب «درر السمط في خبر السبط»، وكتاب «إفادة الوفادة».
شعره
* ابن الأبار شاعر متفنن نظم في الأغراض جميعها، وشعره راق رائق يتسم بالبراعة والعذوبة والعفة والوفاء للوطن، وغرر قصائده ثلاثٌ ؛ ميميته التي رثى بها شيخه الكلاعي ، وسينيته الفريدة التي استصرخ بها السلطان الحفصي، وهمزيته التي استنهض بها همة السلطان نفسه لاسترجاع الأندلس ؛ وكل تلك القصائد نظمها ابن الأبار بعد سقوط بلنسية.
أما الأولى ؛ فقد رثى فيها شيخه الحافظ أبا الربيع الكلاعي رحمه الله تعالى الذي قتلته الفِرِنجة في وقعة أنيجة لعشر بقين من ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وستمائة، وهي قصيدة على روي الميم شهيرة طويلة أولها ( ) :
ألِـمَّا بـأشــلاء الـعُـلا والـمَــكارِم تُـقَـدُّ بـأطـراف الـقَنــا والـصَّوارم
وعُـوجا( ) عليهـــا مَأرِبا وحفـاوة مصارع خُصَّت بالطُّلى( )والجماجم
نُحَيـي وجــــوها في الجنان وَجيهةً بـمــا لـقـيت حُمرا وجــوه الملاحم
وأجـساد إيـمــان كساها نجيعها( ) مجــاسد من نسج الظبى واللهاذم( )
وأما الثانية : فيقول في حقها ابن سعيد في «القدح المعلى» : «عارضه جمع من الشعراء ما بين مخطئ ومحروم، وأغري الناس بحفظها إغراء بني تغلب بقصيدة عمرو بن كلثوم» ( ) . وقد هزت هذه القصيدة من الملك عطف ارتياح، وحركت من جنانه أخفض جناح، ولشغفه بها وحسن موقعها منه، أمر شعراء حضرته بمجاوبتها فجاوبها غير واحد، لكنها فضحت من باراها وكبا دونها من جاراها. يقول الغبريني في «عنوان الدراية» : «لو لم يكن له من الشعر إلا قصيدته السينية التي رفعها للأمير أبي زكريا رحمه الله تعالى يستنجده ويستصرخه لنصرة الأندلس لكان فيه كفاية، وإن كان قد نقدها ناقد وطعن عليه فيها طاعن، ولكن كما قال أبو العلاء المعري :
تـكـلـم بـالقـول الـمُـــضَلَّلِ حاسدٌ وكــل كــلام الحـاسـديــن هُــراء )
وسينية ابن الأبار طويلة في قريب من سبعين بيتا ؛ نكتفي بذكر بعضها ( ) :
أدرك بـخـيلـك خـيـلِ الله أندلســا إن الـسـبـيـل إلــى مـنجاتها دَرَسـا
وهَب لها من عزيزِ النصر ما التمَست فلم يزل منك عِزُّ النـصـر مُـلتَمسَــا
يـا للـجزيـرة أضحى أهـلها جُــزُرا لـلـحـادثـات وأمسى جَـدُّهَا تَعِســا
فـي كـل شـارقـة إلـمـام بـائـقــــةٍ يـعــود مـأتـمـهــا عند العِدا عُرُسا
وفــي بـلـنـسـيـة مـنـهـا وقرطبــة ما ينسف النفس أو ما ينزف النفسـا
مـدائـن حـلهـــا الإشــراك مبتسما جَــذلان وارتـحـل الإيـمـان مبتئسا
وصيَّـرتها الـعـوادي الـعــائثات بها يستوحش الطرف منها ضِعف ما أنِسا
يــا لَـلـمَسـاجـــد عَادت للعِدا بيَعًا ولَلـنِّــداء غــدَا أثـنــاءهــا جَرَســا
وأما الثالثة : فظلت مجهولة النسب لأكثر من سبعة قرون حتى اكتشاف ديوان ابن الأبار ( ) ، وقد بلغت هذه القصيدة تسعين بيتاً ، ومطلعها :
نـادتــك أنـدلس فـلـبِّ نـــــداءها واجـعــل طواغيت الصليب فداءها
واشــــدد بجَلْبِكَ جُرْد خيلك أزرها تــردُدْ عـلــى أعـقـابهـا أرزاءهـــا
* وإلى جانب تلك الغرر ، لابن الأبار شعر رائق ؛ نورد مقتطفات منه
فمن ذلك قوله يشكو حنينه إلى بلنسية :
تـراءى لــه أُفــق الـبـحيـرة والبحـر فــراح بـمــاء الـقلب مختضب النَّحر
وقد منع التـهـويم( ) أني هائم بعيش مـضـى بـيـن الـرُّصـافــة والـجــسر
وجـنـةِ دنـيــا لا نـظـيــر لـحــسنها تـفـجــرت الأنـهــار من تحتها تجري
إذا الـنــاس حـنــــوا للربيع وجدتنا بـهـا فـي ربـيــعٍ كُلَّ حينٍ من الدهـر
ومن شعره في حديقة ( ) :
حـديــقـــة يـاســــــــمــيــنَ لا تـهـيـــم بـغـيـرهـــا الـحَـدَق( )
إذا جَــفــن الــغــمـــــام بـكــى تــبــســم ثـغــرهـــا الـيَـــقَق( )
كـأطــــراف الأهـلـــة ســـــــال فـــي أثـنــائـهــــا الـشــفــــــق
ومن شعره في خسوف القمر ( ) :
عـجـبـت مـن الخـســــوف وكيف أودى بـبـدر الـتَّــمِّ لَـمَّـــاع الضياء
كـمـرآة جـلاَّهـا الـصـقـــل حـتـى أنــارت ثـم رُدَّت فــي غــشـــــاء
وقوله في دولاب ( ) :
يـا حـبَّــذا بـحــديـقــــــة دولاب سـكـنــت إلـى حـركـــاته الألباب
غَـنَّـى ولـم يـطـــرب وسقــى وهو لـم يـشــرب ومنـه العود والأكواب
لـو يـدعـي لـطــف الهـواء أو الهوى مـا كـنـت فـي تـصـديـقــــه أرتاب
وكــأنــه مـمــا شـــدا مــــستهزئ وكــأنـــه مـمــا بــكى نـــــــدَّاب
وكــأنـــه بــنـثـــاره ومـــــــداره فــلـــك كــواكــبـــه لـهــا أذناب
وله في الغزل ( ) :
مـن عَــاذِري مــن بَـابـلَـي طـرفـــه ولَـعـمــرِه مـا حـل يـومـا بـابـــــلا
أُعـتِـده خُوطًا( ) لعيشي نـاعـمــــا فيعود خَـطِّـيًّــا( ) لـقـتـلـي ذابـــلا
وقوله يمدح السلطان الحفصي أبا زكريا ( ) :
تـحـلَّت بـعـليــاك الليالي العـواطـل ودانـت لـسـقـيـاك الـسحاب الهواطل
ومـا زيـنــة الأيــام إلا مـنـــاقــــب يـفـرعــهــا أصــلان بـــأس ونــائل
إذ الطَّــول والصَّـول استـقـلا بــراحة تـرقـت لـهــا نـحــو الـنـجوم أنامل
وله يرغب عن الكتابة ( ) :
ألا اسـمـع فـي الأمـيـــر مقال صِدقٍ وخـذه عـن امـرىء خَــدَم الأمـيـــرا
مـتـى تـكـتـب تَــرِد وَشَــــلا أجاجا وإن تـركــب تَــــرد عـذبــــا نمـيـرا
ومن شعره في الجناب النبوي ( ) :
لــو عَــنَّ لــي عــون مــــن المقدار لـهـجــرت لـلــدار الكريــمة داري
وحـلــلــت أطـيـبَ طِـيـبَةٍ من طيبةَ جـارا لـمــن أوصــى بـحــفظ الجار
يــا زائـريــن الـقـبــر قـبــر مـحمد بـشـرى لـكــم بـالـسـبــق في الزوار
أوضـعـتـم لـنـجـاتـكــم فــوضعتم مــا آذاكــم مـن فـــــــادح الأوزار
فــوزوا بـسـبـقــكــم وفوهوا بالذي حـمــلـتـم شـوقـا إلـى الـمــــختار
أدوا الـســلام سَـلِـمـتـــم وبــــرَدِّه أرجــو الإجـــارة مــن ورود النــار
ومن شعره في الافتقار إلى الله ( ) :
رجـوت الله فـي الــلأواء لـمـــــــا بـلــوت الـنــاس مــن سـاه ولاهي
فـمــن يــك سـائــــلا عنـــي فإني غـنـيــت بـالافـتـقــار إلــى إلـهـي
وله في انتظارالفرج ( ) :
يــا شـقـيــق الـنــفس أوصيك وإن شـق فـي الإخــلاص مــا تـنـتـهجه
لا تـبـت فـي كـمــد مــن كــبــــد رب ضـيـق عــاد رحـبـــا مـخـرجه
وبـلـطــف الله أصـبــح واثــقـــــا كـل كــرب فـعـلـيـــه فـــرجــــه
نماذج من نثره
* برع ابن الأبار كغيره من الأدباء الأندلسيين في النثر كما برع في الشعر، وليس هذا غريباً على من تبحر في علوم اللسان نحواً ولغة وأدباً، فهو كاتب بليغ حسن الخط جيد الضبط، رشح لكتابة العلامة وهي من أعلى المناصب في مجال الكتابة الملوكية .
لقد نقلت لنا كتب التراجم والأدب رسائل كثيرة لابن الأبار تضمنت نثراً بديعاً على اختلاف أنواعها وأسباب كتابتها، فبعضها موجه إلى أصحابه وأقرانه من الكتاب والأدباء، وبعضها شفاعات لإطلاق مساجين أو مساعدة محتاجين، أو تنصيب بعض العمال على ولايات معينة، ويطول بنا المقام لاستعراض تلك الرسائل؛ وحسبنا في مقامنا هذا أن ننبه على بعض تلك النثريات :
فمن ذلك رسالة كتب بها في تنصيب بعض العمال وهو : «عن إذن فلان يتقدم فلان للنظر في الأشغال المخزنية بفلانة، مُوَفيا ما يجب عليه من الإجتهاد والتشمير، والجد الذي ارتسم في الإنماء والتثمير، مصدقا ما قدر فيه من الانتهاض والاستقلال، وقرر عنه من الأمانة التي رشحته وأهلته لأنبه الأعمال؛ جاريا في ضبط الأمور المخزنية والرفق بجانب الرعية، على المقاصد الجليلة والمذاهب المرضية، في عامة الشؤون والأحوال، عاملا بما تقدمت به الوصية إليه، وتأكدت الإشارة به عليه، من تقوى الله في السر والعلن، عالما أن المرء بما قدمته يداه مُرتَهَن» ( ) .
ومنه نثره أيضا رسالة بعث بها إلى صديقه الكاتب القاضي أبي المطرف ابن عميرة المخزومي يسأله عن بلنسية وأحوالها بعد احتلال الإسبان لها ؛ ومما قال فيها: «...الحديث عن القديم شجون، والشأن بتقاضي الغريم شؤون، فلا غرو أن أطارحه إياه، وأفاتحه الأمل في لقياه، ومن لي بمقالة مستقلة، أو إخالة غير مخلة، أبت البلاغة إلا عمادها، ومع ذلك فسأنبئ عمادها .
درجت اللِّدَات والأتراب، وخرجت الروم بنا إلى حيث الأعراب، أيام دفعنا لأعظم الأخطار، وفجعنا بالأوطان والأوطار، فإلامَ نداري بَرْحَ الألم؟ وحتامَ نساري النجم في الظلم؟ جمع أوصاب ما له من انفضاض، ومضض اغتراب شذ عن ابن مُضاض، فلو سمع الأول بهذا الحادث، ماضرب المثل بالحارث.
...وأما الأوطان المحبب عهدها بحكم الشباب، المشبب فيها بمحاسن الأحباب، فقد ودعنا معاهدها وداع الأبد، وأخنى عليها الذي أخنى على لُبَد، أسلمها الإسلام، وانتظمها الانتثار والاصطلام، حين وقعت أنْسُرُها الطائرة، وطلعت أنحُسُها الغائرة، فغلب على الجذل الحزن، وذهب مع المسكين السكَن:
كزعزعِ الريحِ صَكّ الدَّوح عاصفهــا فــلم يَدَع من جنًى فيهــا ولا غُصُنِ
واهًــا وواهًـــــا يموت الصبر بينهما موت المحامد بيـن الـبـخـل والـجُبُن
أين بلنسية ومغانيها، وأغاريد وُرْقِها وأغانيها؟ أين حُلَى رصافتها وجسرها، ومنزلا عطائها ونصرها؟ أين أفياؤها تندى غضارة، وذكاؤها تبدو من خُضارة؟ أين جداولها الطافحة وخمائلها؟ أين جنائنها النفّاحة وشمائلها؟» ( ) .
خاتمة
عاش ابن الأبار فترة عصيبة من حياة الأندلس وبلاد المغرب، وشاهد تهاوي مدن المسلمين وحصونهم وتخاذل أمرائهم، وقيام دولة الحفصيين وسقوط دولة الموحدين، وعاين من هول الصليبيين ما يندى له الجبين .
وما على كل ذلك، كان وفيا للأدب الذي أحبه وعشقه حتى الثمالة، وللعلم الذي قضى فيه زهرة شبابه، فخلف تراثا عظيما، وأتحف المدونة الشعرية العربية، والخزانة النثرية بما يدل على رسوخ قدمه في العلم، وبلوغه شأنا عظيما في النبوغ والفهم .
لقد كان بحق مثالا صادقا للأديب المنافح عن دينه وعقيدته، الحامل لحب وطنه في سويداء قلبه، المسخر لشعره ونثره دفاعا عن الحق والحقيقة، وهو مع غيره من رجالات الفكر والأدب في الأندلس يقرر حقيقة واقعة أن ذلك الإقليم كما أنه كان مستقلا عن المشرق في الجغرافيا، فإنه كان استقل إلى حد كبير في الإنتاج الأدبي والإبداع الفكري .
وختاما ؛ الرجاء معقود على أن يكون البحث قد وفى المقام بعض حقه، وصلى الله على نبينا محمد صفوته من خلقه، وعلى آله وصحبه .
قائمة المصادر والمراجع
0- أحمد بن علي القلقشندي: «مآثر الإنافة في معالم الخلافة» ، مطبعة حكومة الكويت، الكويت، ط.2، 1985، تح. عبد الستار أحمد فراج.
02- أحمد بن علي القلقشندي القلقشندي: «صبح الأعشى في صناعة الإنشا»، دار الفكر، سورية، ط.1، 1987، تح. يوسف علي طويل.
03- أحمد بن محمد ابن خلكان،«وفيات الأعيان» . دار الثقافة. بيروت. ط1. 1967. تحقيق : إحسان عباس.
04- أحمد بن محمد المقري: «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب»، دار صادر، لبنان، ط.1، 1968، تح. إحسان عباس.
05- عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، «المقدمة» . دار القلم. بيروت ط5،1981، تح. محمود يوسف زايد.
06- عبد الواحد المراكشي: «المعجب في تلخيص أخبار المغرب»، مطبعة الاستقامة، مصر، ط.1، 1981، تح. محمد سعيد ومحمد العلمي.
07- عبد الواحد المراكشي: «المغرب في حلى المغرب»، دار المعارف، ط.3، 1955، تح. شوقي ضيف.
08- محمد بن أحمد الذهبي، «سير أعلام النبلاء» . مؤسسـة الرسالـة. سوريا. ط9. 1997. تح. شعيب الأرناؤوط ومحمد العرقسوسي .
09- محمد عبد المنعم خفاجي، «الأدب الأندلسي/التطور والتجديد»، دار الجيل، لبنان، ط.1، 1992.
10- محمد بن أبي بكر الرازي: «مختار الصحاح»، مكتبة لبنان، لبنان،ط. 1،1987.
الباحث- عضو مجلس الإدارة
-
عدد المساهمات : 38
الفاعلية : 10
تاريخ التسجيل : 14/03/2012
:: اللغة العربية :: ابداعات
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأحد يناير 04, 2015 10:48 pm من طرف سهام الجزائرية
» في مفهوم تعليمية المادة
الأحد يناير 04, 2015 10:05 pm من طرف سهام الجزائرية
» التدريس فنياته و آلياته
الثلاثاء ديسمبر 23, 2014 12:04 am من طرف myahia
» التكوين : مفهومه ، أهدافه ، آلياته
الإثنين ديسمبر 22, 2014 11:39 pm من طرف myahia
» عذرا فلسطين
الجمعة مارس 14, 2014 8:05 pm من طرف سهام الجزائرية
» ملتقى ولائي 10 مارس 2014
الأربعاء مارس 12, 2014 11:00 pm من طرف myahia
» ما أجمل اللغة العربية
الأربعاء فبراير 19, 2014 8:46 pm من طرف سهام الجزائرية
» و جادلهم بالتي هي أحسن
الثلاثاء فبراير 18, 2014 3:15 pm من طرف سهام الجزائرية
» قصة و عبرة
الجمعة فبراير 14, 2014 1:32 am من طرف myahia