هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
بحـث
 
 

نتائج البحث
 


Rechercher بحث متقدم

المواضيع الأخيرة
» حقيبة الاستاذ " ملتقى تكويني " بطاقة المرافقة للمتربص
التوظيف القرآني للطاقات الدلالية  في اللغة العربية / محمد شلبي محمد Emptyالأحد يناير 04, 2015 10:48 pm من طرف سهام الجزائرية

» في مفهوم تعليمية المادة
التوظيف القرآني للطاقات الدلالية  في اللغة العربية / محمد شلبي محمد Emptyالأحد يناير 04, 2015 10:05 pm من طرف سهام الجزائرية

» التدريس فنياته و آلياته
التوظيف القرآني للطاقات الدلالية  في اللغة العربية / محمد شلبي محمد Emptyالثلاثاء ديسمبر 23, 2014 12:04 am من طرف myahia

» التكوين : مفهومه ، أهدافه ، آلياته
التوظيف القرآني للطاقات الدلالية  في اللغة العربية / محمد شلبي محمد Emptyالإثنين ديسمبر 22, 2014 11:39 pm من طرف myahia

» عذرا فلسطين
التوظيف القرآني للطاقات الدلالية  في اللغة العربية / محمد شلبي محمد Emptyالجمعة مارس 14, 2014 8:05 pm من طرف سهام الجزائرية

» ملتقى ولائي 10 مارس 2014
التوظيف القرآني للطاقات الدلالية  في اللغة العربية / محمد شلبي محمد Emptyالأربعاء مارس 12, 2014 11:00 pm من طرف myahia

» ما أجمل اللغة العربية
التوظيف القرآني للطاقات الدلالية  في اللغة العربية / محمد شلبي محمد Emptyالأربعاء فبراير 19, 2014 8:46 pm من طرف سهام الجزائرية

» و جادلهم بالتي هي أحسن
التوظيف القرآني للطاقات الدلالية  في اللغة العربية / محمد شلبي محمد Emptyالثلاثاء فبراير 18, 2014 3:15 pm من طرف سهام الجزائرية

» قصة و عبرة
التوظيف القرآني للطاقات الدلالية  في اللغة العربية / محمد شلبي محمد Emptyالجمعة فبراير 14, 2014 1:32 am من طرف myahia

التبادل الاعلاني

انشاء منتدى مجاني



سحابة الكلمات الدلالية

المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 16 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 16 زائر

لا أحد

أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 171 بتاريخ الثلاثاء يونيو 12, 2018 11:35 am
نوفمبر 2024
الأحدالإثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعةالسبت
     12
3456789
10111213141516
17181920212223
24252627282930

اليومية اليومية

التبادل الاعلاني

انشاء منتدى مجاني




التوظيف القرآني للطاقات الدلالية في اللغة العربية / محمد شلبي محمد

اذهب الى الأسفل

التوظيف القرآني للطاقات الدلالية  في اللغة العربية / محمد شلبي محمد Empty التوظيف القرآني للطاقات الدلالية في اللغة العربية / محمد شلبي محمد

مُساهمة من طرف الباحث الجمعة أكتوبر 05, 2012 12:39 pm

مقدمة

الحمد لله الرحمن.. الذي خلق الإنسان علمه البيان، وأنزل القرآن خير تبيان، وأرسل رسوله يجني الهدى ويغرس الإيمان.



وبعد:

فإن القرآن الكريم منهج حياة، لا يستغني عنه من آمن به، ففيه من مقومات الصلاح في الدنيا مثل ما فيه من مقومات الفلاح في الآخرة، ولما كان القرآن كلامًا كان فقه طرائق هذا الكلام لازمًا للفهم عن الله تعالى ما أوحى به إلى الناس من تكليفات وتوجيهات، فقد كانت اللغة هي السبيل الأول لفهم القرآن وبيان هذه المرادات الإلهية، ولو قائل قائل: إنما نعلم هذه المرادات مما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم من تفسيرات جزئية ومما ورد في كلام المفسرين جامعًا أقوال الصحابة، فلنا أن نقول :كل ذلك مصدره لغة العرب فلم يفهم صحابي من نص قرآني خلاف ما دلت عليه اللغة، وهذا في الأساس هو معنى البيان وقيمة البيان: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم: 4].



ولكن اللغة العربية التي اختارها الله تعالى لتكون اللسان الذي يوحي به آخر كتبه للعالمين قدر الله لها من الخصائص ما يحقق لها طاقات جبارة في الدلالة على المعاني الدقيقة، حتى إذا أنزل بها القرآن كانت هي أقدر لغة لإيصال هذه المرادات الإلهية.



وهدفنا في هذا البحث المختصر بيان كيف أن للغة العربية طاقات دلالية وكيف أنها جاءت في القرآن الكريم على أعلى ما يكون حتى صار توظيفه اللغوي معجزة أعجزت أرباب اللغة من المعاصرين للنص القرآني ومن بعدهم إلى يوم الدين.



ولا يفوتني قبل البدء في مباحث البحث ذكر طرف من المؤامرة العالمية على اللغة العربية، فلما كانت هي السبيل لفهم القرآن كان التجهيل بها هو السبيل لضياع هذا الفهم ومن ثم كان ذلك سبيلًا لتعطيل النصوص عن معانيها في أذهان المكلفين.



وقد ذكر جلال العالم في كتابه: "قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام، أبيدوا أهله"، أن الغرب يعطون أولوية في مخططاتهم لهدم المسلمين من خلال فصلهم عن القرآن وذلك من خلال هدم اللغة أيضًا [1].



وهكذا يُتبِع بعضهم بعضًا القول، يقول غلادستون: "ما دام هذا القرآن موجودًا، فلن تستطيع أوروبا السيطرة علي الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان كما رأينا" [2].



ويقول المبشر وليم جيفورد بالكراجف: "متي توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه" [3]. يعني بالحضارة النتاج المسيحي والديانة المسيحية.



ويقول المبشر تاكلي: "يجب أن نستخدم كتابهم - يعني القرآن - وهو أمضي سلاح في الإسلام، ضد الإسلام نفسه، لنقضي عليه تمامًا، يجب أن نري هؤلاء الناس - يعني المسلمين - أن الصحيح في القرآن ليس جديدًا، وأن الجديد فيه ليس صحيحًا." [4].



ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر بمناسبة مرور مائة عام علي احتلالها: "يجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم ... ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم، حتي ننتصر عليهم." [5].



ولا زال هم هؤلاء المضلين إماتة اللغة العربية واستبدال العامية بها مذ كان أولهم. يكشف محمد رشيد رضا من زمان مبكر - عام 1902 - عن ذلك المخطط لافتًا النظر إلى ما سماه صيحة اللغة - تستغيث، قال: "أعني بصيحة اللغة كتابًا ألفه المستر "ويلمور" المستشار في محكمة استئناف مصر الأهلية باللغة الإنكليزية، يدعو فيه إلى جعل اللغة العامية المصرية لغة التعليم العامة بدلاً من اللغة العربية الصحيحة، ويحاول إقناع المصريين بأن هذا خير لهم وأقوم سبيلاً، وما هي بالصيحة الأولى؛ وإنما هي ترجع لصوت "ولهلم سبتا بك" الألماني أمين دار الكتب الخديوية من قبلُ - المتوفى سنة 1883 - فإنه وضع حروفًا إفرنجية للغة العامية المصرية لأجل إحيائها ، وألف كتابًا في صرفها وكتابًا في أمثالها وقصصًا عامية، ونشر ذلك باللغتين الألمانية والفرنسوية؛ ليرغب أوروبا في تنفيذ مشروع تعليم اللغة العامية بالحروف الإفرنجية، وجعلها لغة العلم والتعليم، وقد انتدب بعض أغنياء الإفرنج منذ سنين لذلك، وأرصد له مالاً جمًّا ونشرت يومئذ كراسة في الحث عليه وترغيب الآخذ به بالمال، ووزعت هذه الكراسة مع الجرائد اليومية الكبرى حتى المؤيد، وكتبنا وقتئذ مقالتين مطولتين في الرد والتنفير عن المشروع فنَّدنا فيهما وجوه الخديعة والخِلابَة، وكشفنا الغطاء عن ضروب التدليس والتلبيس في الموضوع بلهجة شديدة" [6].



فلما كان فصل الأمة عن قرآنها هو الضامن لهؤلاء الماكرين الكائدين لزوال أمة الإسلام فكذلك كان الضامن لأمة الإسلام في ألا تزول هو ألا تنفصل عن قرآنها..



وإن الاتصال بالقرآن واتباع توجيهاته ومنهجه القويم لهو من أعظم المقاصد الشرعية، قال تعالى مادحًا: ﴿الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾ [البقرة: 121]، أي يتبعونه حق اتباعه [7]، وقال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29].



والملاحظ أن الغرب قد قرنوا هدم القرآن بهدم اللغة لإدراكهم هذه الحقيقة: أن الثانية وسيلة لفهم الأول لا محالة؛ لذلك فإن بيان قيمة العربية وكيف وظفها القرآن لبيان معانيه أصبح من الأهمية بمكان، وسوف أعرض القضية في مباحث أبدؤها بالمبحث التالي:


المبحث الأول
بعض الخصائص الدلالية في اللغة العربية

هناك خصائص كثيرة للتعبير في اللغة العربية، فيما يعرف بالنظريات الدلالية، ومن هذه النظريات التي تضبط قضية التعبير:

1- نظرية الفروق اللغوية:

ليس هناك كلمتان في العربية لهما نفس المعنى من كل جانب، إنما هي كلمات متقاربة المعاني إلى حد بعيد، من ذلك الفرق بين الجلوس والقعود: فالقعود "من القيام والجلوس من الضجعة ومن السجود" [8]، وكالفارق بين الحمد والمدح، فالحمد "لا يكون إلا على إحسان... والمدح يكون بالفعل والصفة" [9]، أي الحمد لا يكون إلا على فعل حسن، أما المدح فيكون على الفعل الحسن والوصف الحسن، فكل محمود ممدوح وليس كل ممدوح محمود، فلا يحمد أحد لطول قامته وإنما يمدح بذلك.



وهكذا كل كلمتين توهم ترادفهما.



وهناك ثلة كبيرة من العلماء تكلموا عن اختصاص كل لفظ بمعنى، وكتبوا فيه كتابات، من أقدمهم الجاحظ في كتاب "البيان والتبيين"، قال:



"وقد يستخف الناس ألفاظًا ويستعملونها وغيرها أحق بذلك منها. ألا ترى أن الله تبارك وتعالى لم يذكر في القرآن الجوع إلا في موضع العقاب أو في موضع الفقر المدقع والعجز الظاهر، والناس لا يذكرون السَّغب، ويذكرون الجوع في حالة القدرة والسلامة. وكذلك ذكر المطر، لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا في مواضع الانتقام. والعامة وأكثر الناس لا يفصلون بين ذكر المطر وذكر الغيث. ولفظ القرآن الذي عليه نزل إذا ذكر الأبصار لم يقل الأسماع. وإذا ذكر سبع سموات لم يقل الأرضين، ألا تراه لا يجمع الأرض أرضين ولا السمع أسماعًا. والجاري على أفواه العامة غير ذلك: لا يتفقدون من الألفاظ ما هو أحق بالذكر، وأولى بالاستعمال" [10].



وقد ألف في نفي الترادف كثير من العلماء ولعل أشهر ما ألف في ذلك الباب كتاب: "الفروق اللغوية" لأبي هلال العسكري، ومنهم من وظف هذه النظرية في تفسير القرآن الكريم كالراغب في "مفرداته"، والفراهي في "مفرداته"، والسمين الحلبي في "عمدة الحفاظ"، وآخرون. كما أعدت دراسات في نظرية الفروق اللغوية وأثرها في تفسير القرآن الكريم، منها:"الفروق اللغوية وأثرها في تفسير القرآن الكريم" أعدها الدكتور: محمد عبد الرحمن بن صالح الشايع [11].



2- نظرية المقاييس لابن فارس:

عني ابن فارس بدراسة المعاني العامة، فوجد أن كل الكلمات التي تنتمي لأصل واحد في الغالب يجمعها معنى واحد عام، ومثالًا على هذه النظرية: نأخذ كلمة "سكن"، فكل كلماتها دالة على الثبات وضد الحركة، فمنه المسكن الذي يُعاش فيه، والسكون ضد الحركة والسِّكِين لأنه يسكن به الكائن الحي، والسكينة التي يسكن بها القلب [12]، وهكذا، وقد استقام لابن فارس من أفراد هذه النظرية ما أقام له معجمًا سماه "مقاييس اللغة".



وهو أحيانًا يذكر للأصل الواحد معنيين مختلفين، وقد وجدت أنه بالتعمق والتأمل يمكن رد المعاني التي ذكر كونها خالفت القياس إلى قياسه تحت معنى واحد.



3- نظرية التقاليب:

أصَّل لها ابن جني في "الخصائص"، وهي تقول بأن كل الكلمات التي تخرج من تقاليب أصل ثلاثي واحد يجمعها معنى واحد، ومثل لذلك بالأصلين: "قول" و"كلم" فالأول أرجع كل كلماته للخفة والحركة، والثاني أرجع كلماته للقوة والشدة [13].



4- نظرية الاشتقاق الأكبر:

وهي تقضي بأن الأصلين الثلاثيين إذا اشتركا في حرفين تشابهت معانيهما، وفسر ابن تيمية بهذه النظرية اسمه تعالى: "الصمد" فقال: " قال أبو عبيد: المصمت الذي لا جوف له، وقد أصمته أنا، وباب مصمت: قد أبهم إغلاقه. والمصمت من الخيل: البهيم، أي: لا يخالط لونه لون آخر، ومنه قول ابن عباس: إنما حرم من الحرير المصمت، فالمصمد والمصمت متفقان في الاشتقاق الأكبر وليست الدال منقلبة عن التاء بل الدال أقوى والمصمد أكمل في معناه من المصمت وكلما قوي الحرف كان معناه أقوى فإن لغة الرب في غاية الإحكام والتناسب" [14]. والشاهد: أن قوله: المصمد والمصمت متفقان في الاشتقاق الأكبر، وبه فسر اسمه تعالى الصمد، وهذه النظرية يطلق عليها كذلك: تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني، وذكرها ابن جني في الخصائص كذلك.



5 - دلالة الصوت على المعنى:

هناك أصوات حروف مفخمة وأخرى مرققة، وهذه الحروف بأصواتها تستخدم في اللغة للدلالة على المعاني، فمن ذلك قولهم: غلط فلان في الكلام وغلت في الحساب [15]، والمتأمل يمكن أن يستشف أن الطاء والتاء وظفتا للدلالة على المعنى، فالعرب أمة أمية، وكانوا يعظمون شأن الكلمة أكثر مما يعظمون شأن الحساب، ولذلك وضعوا الطاء المفخمة للخطأ فيما يعظمون من الكلام، ووضعوا التاء المرققة لما ليس له عندهم هذا القدر من التعظيم.



وهذه النظرية يستخدمها بعض الدارسين في تحليل النظام الصوتي للكلمات لبيان المعاني، في مثل كلمة: بحث، فالباء تساوق الضرب على التراب والحاء تساوق الحفر واحتكاك اليد بالتراب، والثاء تساوق نفخ التراب وتذريته، والصورة الكاملة لهذه المساوقات صورة يد تضرب وتحفر وتذرو، فهي صورة البحث عن شيء، دلت عليها أصوات الحروف.



وإن كنت لا أجزم - الآن على الأقل - باطراد هذه النظرية بالقدر الذي يمكن من خلاله بناء معجم كامل لها.



هذا، وقد ذكرت ثلة من خصائص العربية لأن المقام لا يتسع لذكر سائرها ولكن التدليل بالبعض مجزئ في بيان المراد.


المبحث الثاني
قيمة العربية في فهم القرآن

قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا﴾ [ يوسف: 2 ]، ثم بين المقصد من تخصيص الإنزال بالعربية بقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، فهناك علاقة بين النص وبين العقل، وأقصد بالعقل تلك العملية التي تأتي بعد عملية العلم والتفكر، وهذا يقتضي توضيح معنى لفظ: عقل:



جميع كلمات المادة دائرة على المنع والتقييد، قال ابن فارس في مقاييسه عن هذا الأصل: "يدلُّ عُظْمُه على حُبْسة في الشَّيء أو ما يقارب الحُبْسة" [16]، فمنه عقل الناقة أي تقييدها، ومنه العقال يحبسها أن تشرد، ومنه المَعْقِل، أي: الحصن؛ لأنه يَمنَع من فيه، ومنه العقل، أي: الدية للمقتول؛ لأنها تمنع أولياء المقتول من طلب الثأر، أو سموها عقلا لأن الدية كانت إبلًا تُعْقَل بفناء أهل المقتول.. والباب مطرد في هذا المعنى..



إذن فدلالة قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي تصلون من فهمه وتدبره إلى مستوى يجعلكم تُقَيِّدُون وتُثْبِتُون الحق في نفوسكم إثباتًا يمنعكم من الباطل والخطأ ويحفظكم في الحق والصواب فهمًا وقولًا وفعلًا.



وثَمَّ سؤال: ماذا لو نزل القرآن بمعانيه أعجميًّا، ألم يكن ثمة إمكان للوصول إلى العقل كذلك؟



والرد على ذلك أن اللغة العربية لها من طرائق البيان ما لا يدع صغيرة ولا كبيرة في نفس القائل إلا أحصاها؛ ولذلك صارت هي أصلح اللغات للتعبير عن المعاني التي ينبغي أن يعقلها المؤمن في نفسه وأن يعقل نفسه بها عن الباطل والضلال.



ومن خلال تصور إمكانات العربية الدلالية نستطيع معرفة لماذا كانت اللغة العربية سببًا في العقل، حيث كانت أقدر في الدلالة على دقائق المعاني من أي لغة أخرى، وهذا يعني أن الإمكانات الدلالية للغة العربية جاءت في القرآن الكريم للدلالة على المعاني العظيمة والدقيقة في أوجز لفظ وأوضح بيان.



وهذا يعني أن الذي يتفقه في العربية أكثر لا بد أن ينفتح له في التفسير باب لا ينفتح لمن ليس يتفقه فيها، ولعل التفسير المنصوص عن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما قل ليتسع باب التدبر من خلال معطيات اللغة، فاللغة هي الباب الأول الذي يولج من خلاله إلى عالم القرآن الكريم.



أمثلة لخطورة الخطأ اللغوي في القرآن:

لما كان القرآن كتابًا محكمًا كان الخلل الصغير في قراءته يمكن أن يؤدي إلى خطأ جسيم، ونضرب لذلك ثلاثة أمثلة تؤدي المعنى المراد:

الأول: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾: لو قرأها قارئ بالضم "أنعمتُ" لبطلت صلاته؛ لأنه نسب الإنعام لنفسه.



الثاني: قوله تعالى: ﴿اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ﴾: لو قرأها أحدهم "والميزانِ"، لكان المُنْزَلُ شيئًا واحدًا وهو الكتاب السماوي، ولكنها في القرآن (والميزانَ)، ونصبها يدل على أن المُنْزل شيئان: الكتاب والميزان، أي: العدل، واستُفيد المعنى من عطف الميزان على الكتاب بعلامة الفتحة.



الثالث: ﴿أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾: لو قرأها أحدهم: "ورسولِه" بالكسر، لكان قال كلامًا كفريًّا؛ إذ عطف (رسوله) على المشركين يؤدي إلى براءة الله من الرسول وهو كلامٌ كفريٌّ - وليس يكفر قائله الجاهل به - وإنما هي (ورسولَه) فهو معطوف على لفظ الجلالة والمعنى: الله ورسوله بريئان من المشركين.



وهكذا سائر الأمثلة، كلما وقعت مخالفة عن لغة القرآن - وإن كانت في اللغة صحيحة - فلا بد أن تورث فسادًا في المعنى.



تطبيق الظواهر اللغوية في فهم القرآن:

على مستوى الدلالة الأول.. نجد أن المفسرين لم يخرجوا عن الإطار اللغوي في فهم القرآن، بمعنى أن أي مفسر لا بد أن يجعل اللغة منطلقه للفهم، وقبل أن أستطرد أورد شبهة من الشبهة التي يتكلم بها بعض الناس، ألا وهي: لو كان منطلق المفسر هو حد الدلالة اللغوي - ونحن ندري دقة وخصوصية اللغة في دلالة اللفظ على معنى - وليس وراء ذلك منطلق آخر، فإن هذا سيقلص معاني القرآن ويقيد إبداع المبدعين وفهم المتدبرين.



ولكن ليُعْلَم أن تطاول المعاني وترافدها إنما يجيء من التركيب وليس من مجرد اللفظ، فاللفظ وحده هو خاص الدلالة ضيق الدلالة أما إذا تراكب مع غيره فإن التركيب يعطيه طاقات دلالية جبارة توسع المعاني وتفتح أبوابًا من التدبر.



ككلمة باب في جملتين: الباب مفتوح دائمًا، وفلان بابه مفتوح دائمًا، في الأولى والثانية معناه الباب المعروف إلا أن التركيب في الثانية أعطاه معنى زائدًا وهو الكرم، إذ كان دلالة الكرم أن باب فلان لا يغلق من كثرة الضيفان، وهكذا سائر التراكيب.



والمقام جدير لذكر تنبيه مهم: أن النظريات والظواهر اللغوية أمور هي في فطرة اللغة مذ كانت، وليس معنى ورودها في القرآن أن القرآن وظف نظرية ابن فارس أو ابن جني أو فلان، وإنما وظف إمكانية معينة اكتشفها ابن فارس أو ابن جني أو غيرهما.



نعود للتطبيق بأمثلة على كون العربية منطلقَ القومِ لفهم القرآن:

1- توظيف ظاهرة المشترك اللفظي ونظرية المقاييس:

كلمة (النجم):

أول ما يرد على ذهن القارئ ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن: 6] أن النجم هو هذا الذي في السماء منيرًا، ولكن اللغة تعطي دلالة أخرى للفظ وهو العشب؛ فالنون والجيم والميم حروف تدل الكلمات الخارجة منها على معنى الظهور من خفاء، فالنجم الذي في السماء سمي لظهوره في الليل المظلم، والعشب الذي في الأرض سمي لظهوره بعد أن كانت الأرض صعيدًا جرزًا، ونجم كذا عن كذا أي نتج وظهر، وهنا يأتي المفسر ليفسر اللفظة بما أعطته له اللغة من دلالات؛ لأنه لا يزعم إحاطته بإرادة الله تعالى أحد المعنيين دون الآخر، والقرآن نزل بالعربية فيجب أن يفسر المفسر النجم بالجسم الذي في السماء أو بالعشب الذي في الأرض، ويسوق مناسبات التفسير، فتفسير النجم بمعنى الجسم المضيء الذي في السماء مناسبته ذكر الشمس والقمر قبله: ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانِ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾، ومناسبة المعنى الثاني: اقتران النجم بالشجر بعده، وهو اقتران نبات بنبات.



كلمة (المسَحَّرِينَ):

الجذر "سحر" ذكر له ابن فارس ثلاثة أصول متباينة، لا يقترب بعضها من بعض، وبهذا فقد خرج - في نظره - عن مقاييسه، ولكن إذا أمعنا النظر وجدنا أن كل الكلمات التي تنتمي لهذا الأصل داخلة في معنى الغموض والخفاء، فالسِّحر فيه من الغموض والخفاء ما لا يخفى على الإدراك، وقال فيه ابن منظور: "كلُّ ما لَطُفَ مَأْخَذُه ودَقَّ فهو سِحْرٌ" [17]، والسَّحَر قُبَيْل الفجر وقت ظُلمة وخفاء، والسَّحْر وهو "ما التزق بالحلقوم والمريء من أعلى البطن" [18]، وكذلك يقال للجبان: "انتفخ سحره، أي: رئته" [19]، فالسَّحْرُ جزء من الجوف باطن، وهو موطن خفاء وإنما سمي ذلك سَحْرًا دون سائر الأجزاء الباطنة لكون الجوف يحتوي أشياء تخفى فيه؛ ولذلك كان السَّحْر هو القلب كذلك؛ لأن قلب الشيء أخفى أجزائه.



وهكذا تعطي اللغة دلالات للكلمة فيأتي المفسرون فيفسرونها بدلالاتها المقبولة: ﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ﴾ [الشعراء: 153] أي: المسحورين أو الآكلين [نسبة الأكل عندهم إما لطعام السحور وإما لمرور الطعام في منطقة السَّحْر]، أي: بشرًا مثلنا تأكل، وإن كانت الدلالة الراجحة هي للمعنى الأول، إلا أن لهذه شاهدًا من آيات أخرى: ﴿وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾ فإن في هذا دلالة على أن اللغة هي الباب الأول لفهم القرآن..



كلمة (مخلدون):

مادة "خلد" تدل على معنى البقاء واللزوم، فالخُلْدُ في الجنة من ذلك، ويخلُد إلى النوم، والخَلَدَة بمعنى القرط في الأذن حيث تلازم الأذن، ودار في خَلَدِي أي: خاطري، والخاطر ملازم لصاحبه، ويأتي المفسرون ليفسروا الكلمة بمعنيين: مُخلَّدون: باقون على هيئتهم لا يتغيرون، ومخلَّدون بالخَلَدَة أي مزينون بها دلالة على جنس التزين ببعض أفراده. وإن كان التفسير الأول هو الأرجح، إلا أن اللغة لما أعطت الدلالة الأخرى لم يسع المفسرين إلا أن يذكروها، فقالوا (مخلدون) أي: باقون على هيئتهم، أو من الخلدة أي: مزيَّنَة آذانهم بالقروط، وإن كان الترجيح هو للأول: أي: باقون على هيئاتهم؛ لأن تخصيص القروط دون غيرها في وصف الزينة غريب، أما وصفهم بأنهم باقون على هيئتهم الحسنة لا يركبون طرائق النمو أقرب لمعنى الإنعام بالمنظر الحسن من ذكر ذلك عن طريق القروط.



ملحق:

ثمة كلمات تعطي المعنى وضده، فلا يكون لدى المفسرين سبيل إلا أن يذكروا المعنيين جميعًا، اعترافًا منهم بأن اللغة هي باب الفهم، ومن ذلك:



قوله تعالى (وأسروا الندامة):

كلمة أسر من الكلمات التي تعطي المعنى وضده، فهي بمعنى الإسرار والجهر كذلك، ويستشهد للمعنى الثاني بقول امرئ القيس:تَجَاوَزْتُ أَحْرَاسًا إليها ومَعْشَرًا
عَلَيَّ حِرَاصًا لو يُسِرُّونَ مَقْتَلِي




أي: هم حريصون على أن يقتلوني ويظهروا مقتلي عبرة لمن تسول له نفسه الذهاب لابنتهم، وبالمعنيين فسر قوله تعالى، بمعنى أنهم كتموا الندامة في نفوسهم تغيظًا وتحسرًا، أو أظهروها من شدة ما يجدون وهو متوافق مع قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ﴾ وهي ندامة ظاهرة.



2 - نظرية الفروق اللغوية:

نريد أن ندلل ببعض الأمثلة على دقة الفروق اللغوية في القرآن الكريم، والأمر أن كل كلمة بل كل حرف من حروف المعاني في القرآن الكريم مختار بحكمة بالغة بحيث لو أتى غيره مكانه لاختل المعنى المراد، وهذا من ناحيتين: ناحية مناسبة اللفظة للمعنى المذكور بحيث لا يقوم غيرها مقامها، ومن ناحية التركيب الذي وظف هذه اللفظة توظيفًا يجعلها فصيحة في مقامها، وهذا مضمون نظرية النظم لعبد القاهر الجرجاني في كتابه "دلائل الإعجاز"، حيث بين أننا: " نَرى اللفظةَ تكونُ في غايةِ الفصاحةِ في موضعٍ، ونَراها بِعَيْنِها فيما لا يُحْصى من المواضِع وليس فيها مِن الفصاحةِ قليلٌ ولا كثيرٌ. وإِنما كان كذلك؛ لأنَّ المزيَّةَ التي مِنْ أجْلها نَصِفُ اللفظَ في شأننا هذا بأنه فصيحٌ، مزيةٌ تحدث من بعد أنْ لا تكونَ، وتظهرُ في الكَلِم من بَعْدِ أنْ يَدخُلَها النظْمُ" [20].



ومما يبين ذلك:

• قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾: كلمة (ريب) غير كلمة شك، فالريب شك في تهمة [21]، ومنه الارتياب في أمر ما، وقال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ﴾، فلما ذكر الشك خصصه بالإرابة، والمعنى أن مجرد الشك أمر أعم من الريب، فالريب يكون في الأمور التي يخاف فيها الإنسان من مغبة قرار أو توقع مصير، فيشك في أمره شكًّا يخالطه الخوف، أما الشك في الرجل القادم مثلًا ونحوه فهو أمر آخر، ليس له علاقة بالريب، ولما كانت العقيدة من أهم الأمور التي يجب فيها مع التصديق الاطمئنان وهو المعبر عنه بمرتبة "اليقين"، ولما كان الكفار ينفرون من الإيمان نفورًا يخالطه الخوف من الوقوع فيه ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِّعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ [القصص: 57] ذكَّرَهم الله تعالى بأن هذا القرآن هو الحق المبين ولا خوف من اتباعه.



• قوله تعالى: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾: والصعيد غير التراب؛ لأن التراب اسم عام فيما ملأ سطح الأرض وما ملأ بطنها، وما في بطنها لا يتيمم به؛ لذا لم يصلح لفظ التراب في هذا الموضع، أما الصعيد فهو تراب وجه الأرض [22]، وهو يعطي بالضبط المعنى المراد؛ إذ كان الصعيد فيه ملاقاة للشمس التي تضربه فتجففه فيصلح حينئذ للتطهر به، بخلاف تراب باطنها الذي يختزن الرطوبات ولا يصلح لذلك.



ولا جرم أن كل كلمات القرآن فيها ما في المثالين من حكمة الاختيار للفظ الدال على المعنى المراد، وليس المقام مقام إحصاء.



3- توظيف القرآن الكريم للدلالة النحوية:

القرآن الكريم يوظف الدلالة النحوية - وقد علمنا أن الإعراب فرع المعنى - توظيفًا رائعًا وعجيبًا، بحيث يستفاد منه أحكام فقهية وأفكار عقدية ونحو ذلك من الإفادات، ونريد أن نمثل هنا بمثالين اثنين يفيان بالغرض:

• قوله تعالى: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾: قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: 6]، ففصل بين منصوبات بمجرور، والمعنى المستفاد حينئذ من هذا الترتيب هو حكم فقهي: وجوب الترتيب، وفهم هذا الأصل من كون الكلام عدل عن الترتيب الطبيعي وهو ذكر المنصوبات ثم المجرور، إلى هذا الترتيب فعلم أن العدول لعلة، وهي ما ذكرنا.



• قوله تعالى ﴿قالوا سلامًا قال سلام﴾: سلام الأولى منصوب، وسلام الثانية مرفوع، والعلة أن الإعراب فرع المعنى، فالأول منصوب على المفعولية أي: قالوا: نقول سلامًا، فالجملة فعلية، فكان الرد بالرفع، والتقدير: أمري سلام، فهو خبر لمبتدإ محذوف في جملة إسمية، والجملة الإسمية أدل على معنى الثبات من الجملة الفعلية، فكأن سيدنا إبراهيم قال: وأنا كل أمري سلام، فرد التحية بأحسن منها.



4- توظيف القرآن الكريم للدلالة الصرفية:

أولا: توظيف القرآن لدلالة اسم الفاعل

اسم الفاعل بدلًا من اسم المفعول:

ونمثل لهذا الباب بقوله تعالى: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ﴾ [المدثر: 49]، فالملاحظ أن اللفظ أتى (مستنفِرة) على اسم الفاعل، والمتوقَّع: (مستنفَرة) لأن الأسد استنفرها، والحقيقة أنها إحدى القراءات الصحيحة، ولكن الحديث هو عن المعنى الذي زادته قراءة (مستنفِرة) بالكسر، وهو معنى أعمق من معنى القراءة التي بالفتح، وهو بيان شدة الفزع من خلال بيان السلوك، حيث صارت الحمر من شدة فزعها يستنفر أحدها ما أمامه ليتسع له مكان الهروب، وهو أشد في الدلالة على الفزع من مجرد ذكرها على أن الأسد استنفرها، وذكر الزمخشري وجهًا آخر في قراءة اسم الفاعل، قال: "كأنما تطلب النفار من نفوسها" [23]، يعني يحمل كل حمار نفسه على الفرار، والشاهد أن اسم الفاعل بين معنى لا يبينه اسم المفعول، مع كون اسم المفعول أكثر توقعًا من اسم الفاعل في هذا المقام.



اسم الفاعل مع الفعل:

يقول الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ﴾ [الملك: 19]، ولم يقل صافات وقابضات، ولا يصففن ويقبضن؛ لأن اسم الفاعل يفيد الثبات والفعل يفيد التجدد والحركة، فقولي هو واقف غير قولي هو يقف، فلما ذكر الله تعالى هيئتين متضادتين ناسب كل ضد صيغةٌ غير صيغة الضد الآخر، والثبات ضد الحركة، فقوله صافات اسم فاعل يفيد الثبات وهو مناسب لهيئة الصفوف، أي: بسط الطائر جناحَه محمولًا على الهواء دون حركة، كالبومة حين تنظر ما تصطاد، والفعل يفيد الحركة وهو مناسب لهيئة رفرفة الجناحين (يقبضن).



ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ﴾ [الأعراف: 193]، فالدعوة كلام وحركة ناسبها صيغة الفعل (دعوتموهم)، والصمت سكون وثبات ناسبه صيغة اسم الفاعل (صامتون).



اسم الفاعل وصيغ المبالغة:

إذا كذب الإنسان قلنا: كاذب، فإذا عهدنا عليه هذا مرة بعد مرة وكثر واعتيد منه قلنا: كذاب، فصيغة المبالغة أتت لمبالغة معنى اسم الفاعل، والفاعل يفيد اتصاف الموصوف بالصفة اتصافًا عامًّا، أما المبالغة فتفيد اتصافًا مخصوصًا، ونمثل هنا بصيغتين: فعال وفعيل، ذكر أبو هلال في أول الفروق أن صيغة "فعَّال" تفيد فعل الشيء مرة بعد مرة [كثرة الاتصاف]، وأن صيغة "فَعول" تفيد أن يكون المرء قويًّا على الفعل [شدة الاتصاف] [24]، فحينما يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [فاطر: 38] نفهم أنه متصف بصفة عامة وهي علمه الغيب، أما حينما يقول ﴿عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ نفهم أنه يريد كثرة علمه الغيوب، وما أكثر الغيوب في النفس وضمائرها والقلوب وخواطرها، وفي السماء وأفلاكها والأرض وأجزائها، والكائنات وأنواعها، وحينما يقول تعالى: ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم﴾ نفهم أنه تعالى يريد شدة علمه وبلوغه كل صغير وكبير، فهو يجمع الصفتين "الخبير - الشهيد" فالخبير عليم بالخفايا والشهيد عليم بالظواهر، والعليم يجمعهما معًا.



وكذلك خالق وخلَّاق، وقوله عن الإنسان: ظالم وظلوم، ونفيه عن نفسه الظلم بصيغة ظلَّام.



ولنا مع ظلام وقفة، لماذا لم يقل: "وما ربك بظالم للعبيد" وقال: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد﴾ [فصلت: 46]؟. إن صيغة فعَّال تفيد الكثرة، فلماذا جاء معنى الكثرة في حين أن الأصل معنى الامتناع، أي: امتناع وقوع الظلم من الله تعالى؟.



ذلك لأن في صيغة الكثرة معنى إسقاطي، أي أنهم كثيرون هؤلاء الذين يمكن أن يظلمهم غيرهم بسبب شدة إفسادهم، فيتجاوز معهم المرء مستوى العدل ويظلمهم في العقاب بأن يتجاوز في عقابهم حجم الخطأ، لكن الله تعالى صبور حليم، لا يظلم هؤلاء - على كثرتهم - وإنما يعاملهم بالعدل المطلق. وهو معنى متوافق مع قوله تعالى للمؤمنين في الطائفتين المتقاتلتين: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ وقال: ﴿فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي﴾ [الحجرات: 9] فلما كان المتوقع أن يزداد عقابهم لهذه الفئة التي بغت بعد الإصلاح قال تعالى: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ﴾. فنص على العدل، منعًا لإيقاع الظلم بمن زاد فساده، ففي الآية التي نحن بصددها ينفي الله تعالى أنه يظلم بصيغة تدل على كثرة من يمكن أن يظلموا بسبب فسادهم غير أن الله تعالى لا يعامل الناس كما يعامل الناس الناس.


ثانيًا: توظيف القرآن لصيغ الأفعال

تأتي الأفعال في اللغة على صيغ لكل صيغة معنى خاص، فقولنا خرج غير أخرج غير استخرج غير تخرج، وقولنا كتب غير اكتتب غير استكتب غير كاتب، وهكذا، والقرآن يوظف هذه الصيغ للدلالة على معاني دقيقة وعميقة، تزيد المعنى الظاهر من الآيات، وهذا من معجز القرآن، ونمثل لذلك بأشياء، منها:

(تستطع - تسطع):

قال تعالى يحكي قول الخضر وهو يكلم موسى عليه السلام: ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: 78] وقال لمَّا بين له: ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: 82]، والفارق مستفاد من قاعدة: زيادة المبنى تفيد زيادة المعنى، فخَشُنَ الشيء غير اخشوشن الشيء، الثاني أشد، كذلك استطاع أشد من اسطاع، فلما كان الأمر ثقيلًا على نفس سيدنا موسى لعدم معرفته الحكمة بعدُ قال: (تَسْتَطِع)، ولما علم الحكمة خف عليه الأمر فقال (تَسْطِع)، والعكس في يأجوج ومأجوج مع سد ذي القرنين، قال: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ [الكهف: 97] لأن الظهور والتسلق أسهل من النقب والخرق في هذا السد الشديد الصلابة، فمن السهل أن يصعدوا بسلم أو يتراكبوا أو أي شيء كهذا، أما النقب فهو ما لا يُقْدَر عليه إلا بشديد الجهد، فذكر الصيغة الأخف مع الأخف والصيغة الأثقل مع الأثقل.



وقد ذكر العلامة الطاهر بن عاشور أن الفارق بين تستطع وتسطع هو للتفنن دفعًا لتكرير نفس اللفظ [25]، ثم عاد ففرق بين اسطاعوا واستطاعوا بناء على قاعدة: زيادة المبني تفيد زيادة المعنى [26]، والأولى تفسير الفعلين الأولين بنفس تفسير الفعلين الآخرين.



(تستخرجون - يخرج):

قال تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتُ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبِسُونَهَا﴾ [فاطر: 12]. وقال تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: 20].



يمن الله تعالى على عباده بنعمه التي جعلها في البحر، ومنها اللحم الطري، واللؤلؤ والمرجان، فعبر مرة بلفظ الخروج ومرة بلفظ الاستخراج، فلماذا لم يقل: "تخرجون منه حلية"، ولم يأت في القرآن إلا بلفظ الاستخراج، ولماذا لم يقل: "يستخرج منهما اللؤلؤ والمرجان"؟



الفارق تعطيه دلالة اللغة، فإن خرج هو الفعل الأصلي المجرد، واستخرج فعل مزيد على وزن استفعل، يسمى: "صيغة طلبية" أي طلب حدوث الفعل إما من الغير، مثل: استعانه، أي طلب عونه، وإما طلب الحدوث ببذل الجهد والحيل، مثل: استخرج.



فدل الفعل الأصلي المجرد: "يخرج" على كون البحرين مَصْدرا اللؤلؤ والمرجان، فلم يحتج إلى معنى الاستخراج، ودل الفعل المزيد: يستخرج على عملية الإخراج بالحيل التي عند أهل الصناعات، وفي الآيتين ناسب كل فعل موضعه.



وهناك أمر آخر في الآية الأولى:

قال تعالى عن الأسماك: (تأكلون) وقال عن الحلية (تستخرجون)، وكلاهما يستخرج من الماء، ولكن التعبير القرآني فيه معنى زائد؛ إذ ذكر قضية الطعام بلفظ يدل على يسرها ومناسبةً كذلك لقوله: (طريًّا) فهو لحم طري سهل الحصول عليه، وأما الحلية الغالية الثمن النادرة التحصل فيناسبها لفظ الاستخراج.



(ننسح - نستنسخ):

قال تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا﴾ [البقرة: 106].

وقال تعالى: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية: 29].



وصيغة: (نستنسخ) تعطي معنى غير معنى (ننسخ)، فالأولى تعني: "كنا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم." [27]، أما صيغة (ننسخ) فتعني أن الله تعالى هو مصدر النسخ؛ لأنه هو مصدر القرآن.



وقد يقول قائل: ليس بين ننسخ ونستنسخ علاقة دلالية ليقارن بينهما، فالنسخ من التغيير، والاستنساخ من الكتابة.



والجواب: إن النسخ دل على التغيير دلالة غير مطلقة، فليس كل تغيير نسخًا، وإنما النسخ تغيير فيما كتب، كأن القرآن لما كُتِبَ واقتضت حكمته تعالى تغييرًا فيما كتبه - تيسيرًا على الناس أو غير ذلك - كتب شيئًا آخر، وهذا المكتوب الآخر سمي نسخًا لكونه كتابة أيضًا.


ثالثًا: توظيف القرآن للمفرد والمثنى والجمع

يوظف القرآن الكريم المفرد والمثنى والجمع للدلالة على معاني زائدة عن مجرد دلالة المفرد والمثنى والجمع، وقد يضع أحدها في موضع الآخر للدلالة على هذه المعاني، ومن ذلك:

توظيف القرآن للمفرد والجمع:

قوله تعالى: ﴿أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ﴾ [النور: 31]، وقد كان المتوقع "الأطفال" كما قال: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ﴾، فوظف المفرد والجمع للدلالة على معنى زائد عن مجرد الإفراد والجمع، وهو أن الأطفال لهم مراحل عمرية تناسبها صفات نفسية، فإذا كانوا فيما قبل البلوغ صغارًا جدًّا كانوا متحدين في نفسيتهم من ناحية النساء فلا شهوة ولا معرفة ولذلك وحدهم بلفظ الطفل المفرد لما قال: ﴿الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ﴾، فلما كبروا وصاروا مدركين لأمر النساء ونضجت فيهم الشهوة صاروا مختلفين في مقتضيات شهواتهم فمنهم قليل الشهوة ومنهم كثير الشهورة ومنهم معتدل الشهوة، لذلك عبر عنهم في هذا الطور بلفظ الجمع الدال على تباينهم: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ﴾ فبلوغ الحلم طور غير الآخر تختلف فيه الطبائع [28].



قوله تعالى: (خالدين - خالدًا):

قال تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارَ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الَعِظيمُ * وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [النساء: 14]. لمَّا ذكر النعيم ذكر أهله بصيغة الجمع (خالدين) ولما ذكر العذاب ذكر أهله بصيغة المفرد (خالدًا)، ووظف كلّ واحد لمعنى، فمما يزيد النعيم الاشتراك فيه؛ ولذلك كانت مائدة الجمع أفضل وأنعم من مائدة الفرد وحده، وقال تعالى: ﴿إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ [الحجر: 47]، حتى يبلغ الاشتراك بينهم أن يشتركوا في دخول الجنة من باب واحد: عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ، أَوْ سَبْعُمِئَةِ أَلْفٍ - لاَ يَدْرِي أَبُو حَازِمٍ أَيُّهُمَا قَالَ - مُتَمَاسِكُونَ آخِذٌ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لا يَدْخُلُ أَوَّلُهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ آخِرُهُمْ وُجُوهُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ." [29].



أما العذاب فيزيده الانفراد به، كما أن السجن الانفرادي مثلًا أعظم مشقة من السجن الجماعي؛ لأن النفس تتسلى وتتصبر بمثيلاتها في البلاء، قالت الخنساء:ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي






فذكر أهل العذاب بصيغة الإفراد (خالدًا) كأنما هو وحده الذي يتعذب وهذا أشد عليه من كونه له شركاء، ولذلك كانت حال أهل النار هكذا في الانفراد والوحشة: ﴿مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾ [إبراهيم: 22]، ﴿فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ﴾ [غافر: 47]، ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ [البقرة: 166].



قوله تعالى: (معدودات - معدودة):

كلمة معدودات جاءت في القرآن ثلاث مرات، وكلمة معدودة كذلك ثلاث مرات، قال تعالى في الصيام: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَات﴾ [البقرة: 184]، وقال في الحج ﴿وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَات﴾ [البقرة: 203]، وقال حاكيًا قول اليهود ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَات﴾ [آل عمران: 24]، ولكن لم يأت موضع في القرآن ذكر أن الصيام أيام معدودة، أو أن الحج أيام معدودة، بينما جاء سياق يذكر قول اليهود بلفظة (مَعْدُودَة): قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً﴾، فلماذا؟، إن العرب إذا عدت القليل قدروا موصوفا مفردا: أيام معدودة أي جماعة معدودة، فإذا زاد العدد قدروا موصوفا جمعا: أيام معدودات، أي: جماعات معدودات، وهذا هو العلة في إمكان وصف المعدود غير العاقل بوصف مفرد أو وصف جمع، كما نقول: جبال راسية وراسيات ورواسي، والشاهد أن معدودات تفيد كثرة الأيام، ومعدودة تفيد قلتها، فلما ذكر الله تعالى الصيام وهو ثلاثون شهرا ذكره بمعدودات، ولما ذكر الحج في أيام ذي الحجة وهي عشرة أيام ذكر معدودات ولكن لما ذكر قول اليهود ذكره بمعدودات ومعدودة، ولكل معنى مراد: فالأولى تتناول عن عدد الأيام التي ظنوا أنهم يعذبون بمقدارها وهي الأيام التي عبدوا فيها العجل، وكانت أكثر من شهر، فناسبها قوله: معدودات، أما الثانية فتتناول استهانتهم بالأمر من خلال تهوين اصطلائهم النار في مدة قصيرة في زعمهم، فقالوا معدودة أي: قليلة، إذن ل كلمة تناولت معنى غير الذي تناولته الأخرى. ومن هذا كذلك قوله: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةً﴾ أي: قليلة.



توظيف القرآن للمثنى والجمع:

قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ فالطائفتان مثنى، وكان المتوقع أن يقول: اقتتلا، ولكن جاء بالفعل متصلا بواو الجماعة، وفي هذا دلالة توافق الواقع وتزيد معنى بلاغيا، فأما التي توافق الواقع: فأن الطائفتين ليستا كتلتين تحارب واحدة الأخرى، وإنما مجموع أفراد فإذا وقع القتال قاتل كل فرد فردًا، فصار مرد الأمر إلى دلالة الجمع فعبر عنه بواو الجماعة، وأما التي تزيد معنى بلاغيًّا فهو أن التعبير بواو الجماعة فيه كالذم لهاتين الطائفتين، إذ كان التعبير بالجمع دال على افتراق الناس وتشتتهم؛ إذ الافتراق وإن كان كثرة إلا أنه في هذه الحالة كثرة من النوع الذي يوصف بالانشعاب لا الذي يوصف بالوحدة، فلما عبر عنهما بضمير الجمع دل على افتراقهم الافتراق المذموم بدلالة التقاتل، فذكرهم بهذا الذم عن طريق ذكرهم بضمير الجمع.



توظيف القرآن للمفرد والمثنى:

قال تعالى: ﴿فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: 16]، لما كان موسى وهارون متحدين في النبوة والهدف والتكليف والمصير وحدهما في الخبر: (إنا رسول) فوظف المفرد للدلالة على معنى لا يحتمله الإفراد المجرد، والذي سوغ هذا التوظيف أن اللغة تحتمله، فإن صيغة: فعول تستوي فيها المفرد والمثنى والجمع.



توظيف القرآن للمثنى والجمع:

قال تعالى: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ [الأنبياء: 78]، قال: (لحكمهم) وهما اثنان، والمعنى المراد من هذا الالتفات من المثنى إلى الجمع بيان تعظيمهما كما يعبر عن الواحد بلفظ الجمع لهذا الغرض: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾ وهو واحد سبحانه وتعالى، فكلاهما نبي وكلاهما مَلِك، أما داود فقال تعالى: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ﴾ [ص: 26]، وأما سليمان، فقال تعالى حاكيًا دعوته: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾ [ص: 35]، فكان من تعظيمهما أن ذكرهما بلفظ الجمع.



5- توظيف القرآن الكريم للدلالة الصوتية:

قال ابن جني عن اللغة: "أما حدها فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم" [30]، فلما كانت اللغة في حقيقتها أصوات كان ذلك دالًا على قيمة الصوت في الدلالة على المعنى، وأمثل لذلك بمثال: تقول العرب إذا أخطأ الرجل: غلط وغلت، ولكنهم يقولون غلط في الكلام وغلت في الحساب [فقه اللغة للثعالبي]، وقد كانوا أمة أمية لا يعظمون الحساب ولكن كانوا يعظمون الكلمة فهم أرباب الكلام، حتى كانت الكلمة تشعل حربًا وتطفئ حربًا، وقال طرفة:

وجرح اللسان كجرح اليد



فانظر كيف وضعوا الطاء - أقوى الحروف العربية - لما يستعظمون من الغلط في الكلام، وكيف وضعوا التاء فيما لا يعظمون من أمر الحساب.



والقرآن الكريم وظف هذه الظاهرة توظيفًا عاليًا، سواء في أصوات الحركات أو أصوات الحروف:

أولًا: توظيف القرآن الكريم لأصوات الحركات:

قال تعالى: ﴿مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذَنْ لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [المؤمنون: 91]، يتحدث الله تعالى عن تصور وجود أكثر من إله ويبين أنه لا بد أن يحدث بينهم نزاع على الملك، هذه طبيعة القوة، لا ينبغي إلا أن تكون في قمة [حق] واحدة، ويصور تعالى هذا التنازع المتصور من خلال أصوات الحركات؛ إذ تتتابع سبع فتحات بين مدين بالألف، وقراءة الكلمات بهذه الفتحات تعطي تصويرا لهذا التنازع والتغالب رائعًا بيِّنَا.



كذلك قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ﴾ [الفتح: 10]، الأصل في ضمير الغائب أن يضم، إلا إذا سبق بكسر أو ياء نحو: به وفيه، وعليه، ولكن هنا خالف الضمير من الكسر إلى الضم على أصله، فلماذا؟، ذكر العلماء أن العلة أن الضم يتناسب مع مقام من نعاهده سبحانه وتعالى، وهذا يعني دلالة الصوت على المعنى، فالضم أفخم من الكسر والفتح، بالإضافة إلى أن لفظ الجلالة إذا سبق بالضم فيقتضي ذلك تفخيم اللام فيه، أما إذا سبق بكسر فيقتضي ذلك ترقيق اللام فيه والمقام مقام عظيم، لا يناسبه إلا التفخيم.



ثانيًا: توظيف القرآن الكريم لأصوات الحروف:

قال تعالى: ﴿تِلْكَ إِذَا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾ [النجم: 22]، وضيزى أي جائرة تمنع الناس حقهم، فعدل عن جائرة إلى ضيزى لأن في صوت الأخيرة بشاعة تناسب بشاعة ما يحكمون به من نسبة الولد إلى الله تعالى، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.



وهي ظاهرة لها أمثال في القرآن الكريم، ومن أمثالها وقوع الإدغام في كلمة ما، كقوله تعالى: ﴿أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى﴾ [يونس: 35]، وأصلها: يهتدي، وكقوله تعالى: ﴿تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يخِصِّمُونَ﴾ [يس: 49]، فوظف الثقل الناتج من اجتماع المدغمين للدلالة على ثقل المعنى وشدته، وهو باختيار؛ لأنه يمكن أن يقول: يهتدي ويختصمون، وجاءتا في القرآن، ولكن الاختيار دليل الحكمة إذا كان في كلام الله تعالى.



خاتمة

قد كان هدفنا من هذا البحث المختصر بيان أن اللغة العربية لها من الخصائص ما يؤهلها لتكون لغة الزمان والمكان، ويضعها في القمة من ألسنة الناس. وبيان كيف أن القرآن الكريم وظف هذه الخصائص التوظيف المعجز الذي يدل على المعاني الدقاق من أقرب طريق.



وأنبه على أنني لم ألم بكل خصائص اللغة، ولا بكل الخصائص التي وظفها القرآن الكريم، فهذا غيض من فيض أردت به الكشف عن أسرار العربية، وإعجاز القرآن من خلال التدليل بالجزء على الكل.



والله تعالى أسأل أن يهيئ لهذه اللغة من يجدد باليها، ويحيي فانيها، ويكشف أسرارها، ويجني ثمارها، وأن يهيئ من أبناء الأمة من ينظر في القرآن نظرة حق يستجلي للناس معانيه، ويريهم معاليه.



هذا وما كان في هذا البحث من صواب فمن الله وحده، وما كان فيه من خطل وخطأ فمني ومن الشيطان، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.


فهرس المصادر والمراجع

أولًا: القرآن الكريم.



ثانيًا: التفاسير:

1- ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط: 2، 1420 ه، 1999م.

2- الزمخشري: تفسير الكشاف، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، على محمد معوض، مكتبة العبيكان، ط:1، 1418 ه، 1998 م.

3- محمد الطاهر ابن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت - لبنان، ط: 1، 1420ه، 2000م.



ثالثًا: كتب الحديث:

4- صحيح البخاري: تحقيق: د. البغا، دار ابن كثير ، اليمامة - بيروت.

5- صحيح مسلم: دار الجيل، بيروت.




رابعًا: المعاجم وكتب اللغة:

6- ابن فارس: معجم المقاييس، تحقيق: عبد السلام هارون، اتحاد الكتاب العرب، ط: 1423 ه، 2002م.

7- ابن منظور: لسان العرب، دار صادر - بيروت، ط: 1.

8- الفيروزابادي: القاموس المحيط.




خامسًا: الدراسات اللغوية:

9- ابن جني: الخصائص، تحقيق: محمد علي النجار، المكتبة العلمية.

10- أبو هلال العسك
الباحث
الباحث
عضو مجلس الإدارة
عضو مجلس الإدارة

التوظيف القرآني للطاقات الدلالية  في اللغة العربية / محمد شلبي محمد Jb12915568671
عدد المساهمات : 38
الفاعلية : 10
تاريخ التسجيل : 14/03/2012

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى